الفيلم الوثائقي أورويل 2+2 = 5: حين تُصنَع الحقيقة على مقاس السلطة

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

 «إن مفهوم الحقيقة يتلاشى من هذا العالم.. هذا المفهوم يُخيفني أكثر بكثير من القنابل». (جورج أورويل)
بعد 75 عام من رحيل جورج أورويل (1903 ــ 1950) وروايته الأخيرة (1984)، التي كتبها قبل رحيله بعام، يستعيد ويستحضر المخرج الهايتي راؤول بيك، حياة ومؤلفات إريك آرثر بلير، وهو الاسم الحقيقي لجورج أورويل، من خلال فيلمه الوثائقي الأحدث ORWELL 2+2 = 5، وهي عبارة وردت على لسان أورويل نفسه، سواء في أحد مواقف روايته (1984)، أو عند محاورته مباشرة مع ابنه الصغير، ليكشف من خلالها كيف يمكن أن تغيّر السلطة، الحقيقة والمنطق في عقول المحكومين لصالح وجودها واستمرارها، وفق مفهوم (الأخ الأكبر)، بهدف تحريف الحقائق وكسر الإرادة. كما يوصي الرجل الابن، بأن يفعل ويعمل أي شيء، عدا أن يكون كاتباً!
فهل تغيّر شيء طيلة هذه المدة؟ وهل ما نعيشه الآن يتساوى ورؤية أورويل في روايته المأساوية؟ وهل أصبحت السلطة الآن أكثر تجاوزاً للمصير المحتوم الذي أقره أورويل في روايته؟ كل هذه الأسئلة يعرضها الفيلم من خلال تداخل سردي وبصري لأحداث وجرائم قتل وإبادة أكثر وحشية من جرائم الحرب العالمية الثانية. عُرض الفيلم ضمن (بانوراما الفيلم الأوروبي) الـ18 في القاهرة.


التعاطف ضرورة لا ترف
في عام 1946 يسافر أورويل إلى جزيرة (جورا)، إحدى الجزر الأسكتلندية النائية، ويشرع في كتابة روايته الأخيرة (1984)، وقد بدأ منتصرو الحرب العالمية في تقسيم العالم وفق هواهم. ومن خلال هذه اللحظة، وحتى اكتمال الرواية عام 1949 يستعرض الفيلم حياة أورويل وتحولاته الفكرية والعقائدية الحادة.. بداية من الميلاد في الهند كمستعمرة بريطانية، والانتماء إلى الفئة الدنيا من طبقة متوسطة عليا، ثم محاولة تمثّل طبقة النبلاء والعمل كضابط شرطة في بورما (ميانمار حالياً) ليصبح جزءا من الآلة الاستعمارية، وليعترف بمدى الصلف والغباء الذي كان يعيشه، من ضرب رجل أعزل، أو صفع امرأة لا حيلة لها. يقول أورويل.. «لكي تكره الإمبريالية، يجب أن تكون جزءاً منها. ولكن من غير الممكن أن تكون جزءا من مثل هذا النظام، من دون الاعتراف به على أنه طغيان لا مبرر له».
زمن هتلر المستمر
بالتوازي مع استعراض حياة أورويل تتواتر اللقاءات التلفزيونية وخطابات الساسة للجماهير، مع مقارنات سريعة لخطابات هتلر وزمنه.. من ترامب إلى نتنياهو، وكذا رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، أسلاف هتلر وموسوليني، وبما يفوق كل منهم أشباح الفاشية السابقين. لنرى وزير الخارجية كولن باول في 2003، وهو يؤكد وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، وخطاب نتنياهو بعد أحداث غزة، وتأكيده أنه يعمل من أجل السلام! دون نسيان لقطات للإبادات المستمرة والضحايا في كل مكان في العالم، من القنبلة النووية الملقاة على اليابان 1945، ثم أنقاض المدن، كما في البصرة 2003، ومؤخراً غزة 2023.
كذلك وفي ظل دولة تدّعي أنها من صروح الديمقراطية، أو صرحها الأكبر نجد الهجوم على مبنى الكابيتول الأمريكي في 6 يناير/كانون الثاني 2021 من قِبل أنصار ترامب، حتى تبلغ المفارقة أقصاها، لتأتي امرأة أمريكية وتنفي ما حدث تماماً، وما تم عرضه على الشاشات! وهو ما يحدث أما أعيننا عبر شاشة التلفزيون اللعينة، لتتوالى المقارنات.. فهذا مقطع من عام 2002 لجورج بوش الابن وهو يتحدث عن العراق، وكيف أنه يمثل تهديداً خطيراً للسلام، ثم لقطة من فيلم (1984)، لمجموعة كبيرة من رعايا الأخ الأكبر، يشاهدون عبر شاشة ضخمة ـ لاحظ فكرة الشاشات وكيف يمكنها السيطرة على الآخرين ـ يُعلن صوت قوي.. (نحن في حرب مع شعب أوراسيا). وهي فكرة اختلاق عدو وهمي، فقط من خلال الشاشة التي يتحكم بها الأخ الأكبر. هذا الأخ الذي كان سياسياً، أو عسكريا وقت أورويل، أصبح الآن رجل أعمال وصاحب شركات عابرة للقارات، أو صاحب تأثير كبير، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، كيف يخفي الحقيقة، وكيف يؤكد تزييف الواقع، ويختلق منه حقيقة أخرى يمكن العيش والتفكير من خلالها، وهو بدوره الأكثر قدرة على تحريك القائم بدور الحاكم أو السياسي المتصدّر المشهد، أتى الفيلم بمقاطع لإيلون ماسك وتدخله في الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب، ومارك زوكربرج، وكيفية تزييفه الوقائع.
فما نحياه في ظل هؤلاء أصعب، وما كتبه أورويل وشاهده بطل روايته ونستون سميث، واتهامه في النهاية بأنه (مجرم فكر)، ما يؤدي إلى القبض عليه وإعادة تأهيله بشكل وحشي. مع ملاحظة مهنته الأساسية، وهي (إعادة كتابة التاريخ وفقاً لأهواء حكومة بلاده)، ويستحضر المخرج هنا حادثة تخلص النظام السعودي من الصحافي جمال خاشقجي في 2018.

الأسلوب الوثائقي


يعتمد الفيلم بالأساس على روايتي (1984) و(مزرعة الحيوان)، إضافة إلى (أيام بورما) ومذكرات جورج أورويل، كمرجع للتعليق الصوتي المُصاحب، ليكون صاحب هذا التعليق هو أورويل نفسه ـ الأداء الصوتي للممثل الإنكليزي داميان لويس. أما الجانب البصري المباشر فتمثل في عدة نسخ من أفلام تناولت رواية (1984)، بداية من نسخة رودلف كارتر 1954، مايكل أندرسون 1956، ومايكل رادفورد 1984 وهي النسخة الأشهر. إضافة إلى مقطع من فيلم Crystal Spirit: Orwell on Jura، وهو فيلم تلفزيوني من إنتاج BBC عام 1983، وعن كتاب بالاسم نفسه لجورج وودكوك عام 1966، وقد أخذ منه راؤول بيك مشهدا تخيليا لأورويل وابنه، وشرح عنوان الفيلم (2+2=5). كذلك لوحات كاريكاتيرية تجسد رواية (مزرعة الحيوان) قام برسمها رالف ستيدمان بمناسبة مرور نصف قرن على الرواية. كما استعان بيك بلقطات من فيلمي أوليفر تويست لديفيد لين 1948، والخروج من افريقيا لسدني بولاك 1985.
ومن خلال شعارات الأخ الأكبر في الرواية.. (الحرب سلام، الحرية عبودية، الجهل قوة) يتم تقسيم فصول الفيلم، والاستعانة بلقطات أرشيفية ووثائقية وإخبارية من وقتنا الحالي، كذلك مقابلات سابقة مع فلاسفة وروائيين، مثل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو والروائي التشيكي ميلان كونديرا، إضافة إلى إحصاءات توضح معدلات الفقر والثراء في الولايات المتحدة، وكذا منع العديد من الكتب في الكثير من البلاد، خاصة أمريكا. والقنوات الإعلامية الكبرى ومدى ارتباطها برجال الأعمال والنفوذ. كل ذلك ليس بهدف التوثيق في حد ذاته، بل للشرح والتحليل، ومحاولة توضيح الرؤية من وجهة نظر مختلفة، بعيداً عن وسائل الإعلام المعهودة، التي تمارس دورها في توطيد سلطة (الأخ الأكبر). وبما أن (ونستون) كان مختصاً بحذف الكلمات المريبة من لغة الشعب، بحجة محاربة الأفكار الضارة، يحاول راؤول بيك أن ينتهج نهج أورويل، بأن يوضح طبيعة بعض المصطلحات في زمننا، وكأنها الحالة نفسها التي كان يعاني منها شعب 1984، مثل.. (التهدئة) = المساعي الأكثر شراً. (مراكز التأهيل المهني) = الاعتقال والتعذيب (تجاوزات الشرطة) = الاستخدام القانوني للقوة (معاداة السامية) = الإرهاب وإسكات العالم بالقوة.

ثمّة أمل

ورغم كل ذلك، يرى أورويل من خلال بطل روايته 1984 أن القوة العددية للأغلبية في وقتٍ ما ستمكّنها من الإطاحة بالحكومة.. الإطاحة بالسلطة وأصحابها.

للكاتب محمد عبد الرحيم.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP