من «غروب خالتي وعمتي» إلى ساحات الرأي العام: كيف يحشد اليمين كبار السن رقمياً؟

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

في يوم واحد على «غروب العائلة»، تصل، إلى جانب أزهار «صباح الخير»، عشرات الأخبار التي تدفع المرء إلى تعديل جلسته. لا مصادر، لا تدقيق، فقط عناوين حمراء تتنقّل بين الهواتف. في دقائق تتحوّل الشائعة إلى قلق جماعي، وفي ساعات تُصبح يقيناً مدعوماً بعبارة «قالوا على التلفزيون». هذه طبيعة المعلومة حين تدخل بيوت الناس عبر منصّات التواصل.

اللافت في الأمر هو انخراط كبار السن بشكل واسع على منصات التواصل الاجتماعي. إذ من المفترض أن فئة الشباب تمضي وقتاً أطول في تصفح تلك المواقع، غير أنّ الأرقام تكشف انقلاباً في هذا التصوّر. إذ يفيد استطلاع لمركز «بيو» أن 45 في المئة من المراهقين يعتقدون أنهم يمضون وقتاً أطول مما ينبغي على هذه المنصّات، ما يشير إلى تزايد انسحابهم من الفضاء الرقمي ومحاولتهم تقييد استخدامهم له.

في المقابل، يتقدّم كبار السن إلى الواجهة الرقمية بشكل لافت، إذ تكشف بيانات هيئة الاتصالات البريطانية (Ofcom) في تقريرها Adults’ Media Use & Attitudes 2024 أن من تجاوزوا الخامسة والستين يمضون نحو ثلاث ساعات يومياً على الإنترنت، أي أكثر من المعدّل العام البالغ ساعتين وعشرين دقيقة. عملياً، هناك نوع من الانقلاب في دور الأجيال. فما الذي يدفع هذا التحوّل؟ وكيف تستغل جماعات اليمين هذا الأمر؟

الأسباب
إذا نظرنا إلى منصّات التواصل من حولنا والفئات التي تستخدمها، تفيد الأرقام بأنّ المنصّات الحديثة مثل تيك توك وسنابتشات وإنستغرام مستخدمة أكثر بين الشباب، في حين يُستخدم فايسبوك ويوتيوب أكثر بين الفئات الأكبر سناً. أطلقت العديد من التقارير على فايسبوك تسمية «منصّة كبار السن»، وهو ما تؤكده أرقام الأبحاث. يشبه الأمر ما يحصل في البيوت: الأهل يقضون وقتهم في غرفة الجلوس، بينما الأولاد في غرفهم. فايسبوك بالنسبة إلى الشباب هو بمثابة الصالون الذي يجلس فيه الأهل، لذلك يفضّلون الابتعاد عنه.

وُلد جيل التسعينيات محاطاً بالأجهزة الإلكترونية. كان هذا التطوّر قابلاً للاستيعاب بالنسبة إلى الأكبر سناً، لكن فكرة أن يفتح المرء تطبيقاً على الهاتف ليجد عالماً كاملاً من المنشورات والصور بدت لكثيرين منهم أشبه بالمراهقة الرقمية. مع ذلك، ورغم أن معرفة كبار السن بكيفية التعامل مع منصّات التواصل كانت تبدو آخر ما يمكن توقّعه، اكتشف هؤلاء طريقهم إليها.

من زاوية نفسية، ينجذب كبار السن إلى المنصّات الرقمية بسبب إحساس متزايد بالوحدة. تُظهر الإحصاءات أن علاقاتهم الاجتماعية الفعلية تتقلّص مع التقدّم في العمر، ما يدفعهم إلى التعويض عبر الفضاء الافتراضي. يكرّر المستخدم الأكبر سناً الدخول إلى المنصّة بحثاً عن التفاعل، ويستخدم فايسبوك ومجموعات واتساب للحفاظ على صلته بالعائلة أو الأصدقاء. تشمل هذه الظاهرة أولئك الذين يعيشون في مساكن منفصلة عن أولادهم، ما يقتضي اعتماداً أكبر على الشاشة.

وفقاً لدراسة بعنوان «مساهمة الإنترنت في الحدّ من العزلة الاجتماعية لدى الأفراد بعمر 50 عاماً وما فوق»، يظهر أن استخدام الإنترنت يلعب دوراً أساسياً في تخفيف الشعور بالعزلة لدى كبار السن.

شملت الدراسة 67 ألف شخص أعمارهم فوق الخمسين في 17 دولة أوروبية، وأظهرت أن 31.4 في المئة من غير المستخدمين للإنترنت يعانون عزلة اجتماعية عالية، مقابل 12.9 في المئة فقط ممّن يستخدمونه بانتظام. اعتمد الباحثون في تحليلهم على بيانات مشروع «الصحة والتقدّم في العمر والتقاعد في أوروبا»، مع الأخذ في الحسبان العوامل الاجتماعية والاقتصادية والصحية.

غروبات خالتي وعمّتي
تنتشر الإشاعات في الفضاء الرقمي من جهاتٍ متعددة، غير أنّ الجماعات اليمينية تُتقن استغلال حضور كبار السن على المنصّات عبر رسائل تُصاغ بما يلائم حساسياتهم السياسية والاجتماعية. تظهر دراسة منشورة في مجلة Science Advances أن مستخدمي فايسبوك فوق الخامسة والستين شاركوا روابط لمواقع أخبار كاذبة بمعدّل يفوق الفئات الأصغر سناً بكثير.

تشير دراسة محكّمة أُخرى في Trends in Cognitive Sciences إلى أن التقدّم في العمر قد يضعف من كفاءة التحقّق من المصدر ويُفاقم آثار التكرار في تثبيت المعلومة، ما يرفع قابلية التأثّر بالخطاب الشعبوي. بدورها، تستفيد الأحزاب اليمينية من تقنيات الإعلان الرقمي الاستهدافي، فتستخدم أدوات المنصّات لإيصال محتوى سياسي أو هويّاتي مُوجَّه إلى فئات بعينها، مثل من تجاوزوا سنّ التقاعد.

تظهر دراسة نُشرت في مجلة Electoral Studies أن الحملات الانتخابية الحديثة صارت تعتمد على استهداف فئات عمرية مختلفة بخطاب مخصّص لكلّ فئة. في هذه البيئة، يجتمع طول بقاء كبار السن على الإنترنت مع ضعف البُنى التحقّقية لديهم، ما يخلق حلقة تأثير تُستخدم لتوسيع دائرة النفوذ اليميني وتعزيز حضوره داخل الشرائح الاجتماعية الأكثر عزلةً.

كذلك يميل الخطاب المحافظ بطبيعته إلى استقطاب الفئات الأكبر سناً التي ترى في التغيير السريع تهديداً للقيم والاستقرار. تُحسن الجماعات اليمينية استغلال هذا الميل عبر حملات رقمية تُقدَّم بصياغات تُحاكي مخاوفهم المرتبطة بالهوية والأمان والحنين إلى الماضي. تستثمر تلك الحملات في فكرة «الزمن الضائع» و«القيم التي تتفكك»، فتقدّم نفسها حصناً ضدّ الانهيار الأخلاقي أو الفوضى الاجتماعية.
بهذه الآليات الرقمية، ينجح اليمين في تغذية صراع الأجيال، وإعادة رسم سياسة الانقسام داخل المجتمع، بما يجعل كبار السن خطّ الدفاع الأول عن سردياته.

يتحوّل «غروب العائلة» في كثير من الأحيان إلى ساحة خلفية لبثّ فبركات اليمين، سواء أدرك المشاركون ذلك أم لا. هنا تُصبح المعلومة المضلّلة جزءاً من لعبة أكبر تقودها جهات حكومية أو حركات سياسية تُتقن توجيه خطابها إلى الفئات الأكثر قابليّة للتأثّر: كبار السن.
تُسهم هذه المجموعات العائلية في إعادة تدوير رسائل صيغت أساساً لتحريك المخاوف ورفع منسوب التوتّر الطائفي أو القومي أو الأخلاقي، فيتحول الخبر الملفّق إلى «حقيقة عائلية» يُتداول على نطاقٍ واسع، بلا مساءلة أو تدقيق.

يُبنى هذا الاستغلال على فهمٍ كبير لعناصر الثقة داخل هذه الدوائر: فالرسالة التي تأتي من قريب «موثوق» لا تُفحص مثلما تُفحص رسالة مجهولة المصدر. هنا ينجح اليمين في الدخول من أبواب البيوت إلى العقول، عبر أدوات تكنولوجية بسيطة، وبخطابٍ يُقدّم في قالب الحماية أو الغيرة على الوطن أو «إنقاذ المجتمع من الانهيار». ضمن هذا السياق، يصبح «غروب العائلة» نقطة عبور سهلة للأكاذيب الممنهجة، وبوابة صغيرة تتسلّل منها الفاشية.

ولا بد من التوضيح هنا أنّ الخطر لا ينبع من «غروبات العائلة» نفسها، فالتواصل حاجة طبيعية، بقدر ما يأتي من تواطؤ المنصّات والخوارزميات والأجندات السياسية.

ما يحدث في تلك الغروبات ليس استثناءً لبنانياً أو عربياً؛ في الولايات المتحدة والبرازيل والهند وأوروبا، لعبت المجموعات العائلية على منصّات التواصل الدور نفسه. والمشكلة ليست في كبار السن، فهم انخرطوا في هذا العالم من دون أن يشرح لهم أحد ما يجري حقاً في الفضاء الرقمي، ولم تصل إليهم أدوات التحقّق من المعلومات المضلّلة.

في هذا المناخ الرقمي، تصبح المعرفة الشعبية مقياساً أدق من تقارير المؤسسات أو استطلاعات الشركات. هناك مقولة شائعة بين «قبائل الإنترنت» تقول: إذا أردت اختباراً حقيقياً لمعرفة السرديّة المهيمنة بين الناس، راقب ما يرسله إليك أقرباؤك الأكبر سناً من ميمز وأخبار. فهذه الرسائل تظهر ما ترسّخه الخوارزميات، وما تدفع به المنصّات إلى واجهة الوعي الجمعي.

تقرير لعلي عواد.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP