05/11/2025
السياسية 16 قراءة
كل إمبريالية هي إباديّة بالضرورة

الاشراق
الاشراق | متابعة.
هناك تشتُّت وشلل وعدم قدرة على التركيز واضحٌ من حكومات اليسار في أميركا اللاتينية (على رأسها البرازيل) إلى حكومات وقوى المقاومة في الشرق الأوسط. جزء أساسي من الأثمان الإباديّة التي نَدفعها اليوم، والتي يُحتمَل أن تَبدأ شعوب أميركا اللاتينية بدفعها خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة، هو اعتقاد ضمني يُعبَّر عنه مواربة وليس بصريح العبارة في الأوساط المعادية للإمبريالية، وهو أن الولايات المتحدة الأميركية، على علاتها، ليست إمبراطورية متوحشة مقارنة بالإمبراطوريات الأخرى، بل هي إمبراطورية ذكية، تقنِّن توحشّها، وهي حين تريد تنفيذ جريمة ما فإنها تَسعى إلى إيجاد مخرج قانوني لها.
وفي كل مرة نريد أن نقول إن الإمبريالية الأميركية مجرمة كنّا نضطرّ إلى الإتيان بصور من المجازر البلجيكية في الكونغو أو الفرنسية في الجزائر. كان الاعتقاد الضمني أن الحكومة الصينية أو الروسية أكثر توحشاً من الأميركية. وبالتالي، حين خرجت الإمبراطورية بتوحّشها لم يكن أحدٌ مستعدّاً لها.
ماذا يَعني أنّ إيران اضطرت إلى تعديل سلوكها بعد تهديد الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأكثر تقدّمية والنصير للنقابات العمّالية، صديق بيرني ساندرز، باستخدام القنابل النووية ضد طهران في حال تصعيدها للحرب ضد إسرائيل؟ يَعني أننا لم نكن نتوقّع توحُّشاً مفتوحاً بهذا الشكل، وأن الخطط السابقة لم تكن تَأخذ بعين الاعتبار احتمال أن تقوم واشنطن بذلك. ليست المشكلة في تهديد واشنطن باستخدام الأسلحة النووية، بل في عدم إعلان طهران عن ذلك صراحة، وتحويل المسألة إلى قضية دولية تُعيد طرْح مسألة الإمبريالية.
الجانب الإيجابي في ما يَحصل الآن هو أن الإمبريالية الأميركية حين تُستنزَف وتَسقط (من الواضح حجم الثمن الذي ستَدفعه شعوب العالم قبل أن يحدث هذا السقوط)، فلن يكون هناك طريقة للتقدُّمي الأميركي أن يَزعم أن الديموقراطيات تَخسر الحروب لأنها تَحتكم إلى أصول قانونية وشعبها يحاسب حكوماته؛ لن يكون سقوطاً نبيلاً، المقاتل الذي يَسقط بسبب التزامه بقواعد وقوانين الحرب العادلة. علينا فعلاً أن نحافظ على نعمة وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض.
من الواضح أن الولايات المتحدة تَتجه بسرعة إلى الأوتوقراطية التقليدية جداً، وهي تَستخدم خطوة بخطوة الأدوات التي استَخدمها فيكتور أوربان في هنغاريا وسلطان المسلمين رجب طيب إردوغان (نصير الشعب السنّي في غزة) في تركيا. وفكرة أن الجمهوريين، أو حتى دونالد ترامب نفسه، سيَحكمون في انتخابات شكلية تتكرّر كل أربع سنوات، أصبحت واقعاً.
الرئيس ترامب بلا شك أفضل من باراك حسين أوباما، الذي استَخدم عرقه ودين أجداده، كي يَجعل مناهضي الإمبراطورية أقل قدرة على مقاومتها وأكثر ارتباكاً إزاءها. إذا كنّا نتذكّر، عام 2001 و2003 كانت مواجهة الحروب الأميركية أسهل على مستوى الوعي؛ صحيح أنه كان هناك أكاديميون أميركيون داعمون لهذه الحروب، إلا أنه كان واضحاً أنهم مرتبطون بمصالح شخصية. اليوم، هناك فقدان حتى للقاموس الذي علينا استخدامه لمواجهة الإمبريالية، والسبب الرئيسي في ذلك هو باراك أوباما، ويبدو أن زُهران ممداني سيكمل المنهج نفسه.
علينا بناء حركة لمواجهة كل إمبريالية موجودة أو ناشئة، أن نَرفض أوهام تعدّد الأقطاب، بل نقاتل من أجل المساواة في العلاقات الدولية
ماذا سنَستفيد، نحن شعوب الأطراف، من وصول ممداني إلى منصب عمدة نيويورك؟ ليس فقط لا شيء، بل هو سيَزيد الصورة غموضاً بالنسبة إلينا، أي الصورة التي يَجهد الرئيس ترامب لإيضاحها لنا. هناك نضال أساسي بعد أن تَنتهي فصول الإبادة، وهو منْع الأكاديميين الأميركيين التقدّميين من كتابة الأبحاث والدراسات عنّا واستعادة قدرتهم على الحديث باسم التقدُّم والتفوّق الأخلاقي. لكن للأسف لا أَعتقد أن محور الممانعة، من برازيليا إلى طهران، لديه أي تصوُّر في هذا الإطار؛ نحن الآن نمارس فعل الذهول فقط لا غير، وأخشى أنها ستتحوّل إلى إبستيمولوجيات الذهول.
المواجهة بين الولايات المتحدة والصين قد تبقى في حالة مراوحة لأربعة أو خمسة عقود. السؤال بالتالي هو عن موقعنا في أميركا اللاتينية وفي الشرق الأوسط خلال هذه الفترة، وأيضاً في فكرة انتظار الإمبراطورية لتسقط من تلقاء نفسها، وهي فكرة لا تزال متجذرة للأسف. هناك وهْم حالياً بأن إسرائيل خَسرتْ المحاججة الفكرية عالمياً؛ هذا صحيح الآن، لكن الأكاديمي الأميركي التقدّمي المناصر للنقابات العمّالية سيجد طريقةً لتبرير ما حصل وتحييده عن مركز النقاش.
التعويل الإسرائيلي اليوم هو أنه بعد عشرة أو عشرين عاماً ستتمكّن الجامعة الأميركية من تحييد الإبادة التي جرت في قطاع غزة وفرْض مواضيع أخرى علينا لمناقشتها (ننسى أحياناً أنه حتى الستينيات من القرن الماضي كان الحديث عن الاستعمار والانتداب والتقدّم والتخلّف طبيعياً جداً، ويبدو أنه سيَعود). والجامعة الأميركية، وبسبب القوة الإمبريالية الهائلة، لا تزال تَحتفظ بالقدرة على إجبارنا على تكريس جهودنا للردّ على ما تقوله، إلا إذا حصل تغيُّر في الصين وبَدأتْ بإنتاج علوم إنسانية مختلفة، وهو أمر لا يبدو وارداً على الأقل في السنين القليلة المقبلة.
كيف استغلّتْ إيران أو الصين أو روسيا الأزمة المالية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عام 2008؟ لا شيء، هم كانوا يَنتظرون أن تَسقط واشنطن من تلقاء نفسها، وقد ثبت أن هذا وهْم قاتل يُضاف إلى وهْم أن واشنطن أقل توحّشاً من غيرها من الدول.
ماذا يَعني كل ذلك؟ يَعني أن علينا بناء حركة لمواجهة كل إمبريالية موجودة أو ناشئة، أن نَرفض أوهام تعدّد الأقطاب، بل نقاتل من أجل المساواة في العلاقات الدولية؛ مواجهة الإمبريالية الأميركية بإمبريالية صينية؟ لمَنْ يَعتقد بذلك عليه أن يَتذكّر أنه في عملية السابع من أكتوبر النوعية والتاريخية أتى الرئيس الأميركي جو بايدن ووقف إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورغم كل الاختلافات الأيديولوجية المفترَضة بين الزعيمَين، لم يعيّره بالخلل الأمني التكنولوجي الإداري الهائل الذي أدّى إلى انهيار الدفاعات الإسرائيلية كلياً، بل أعطاه كل الدعم المالي والعسكري والتكنولوجي (من مقرّات أمنية أميركية مرتبطة بالأقمار الاصطناعية في أستراليا إلى كل مقدّرات شركات السيليكون فالي في كاليفورنيا التقدمية)، لم يَكتفِ بذلك بل أرسل حاملة طائرات أميركية إلى البحر المتوسط لطمأنة إسرائيل، قيادة وشعباً.
أمّا في أميركا اللاتينية، وبعد عدة فضائح مالية وبداية انهيار النموذج الاقتصادي الذي وَضعه الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، وخلال أشهر قليلة، فقد ضغط الرئيس ترامب على صندوق النقد الدولي من أجل منْح الأرجنتين قرضاً غير مستحقّ بقيمة عشرين مليار دولار أميركي، وبعد نتائج الانتخابات النصفية في أيلول الماضي، أَنشأ وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسينت خطاً لشراء العملة الأرجنتينية، البيزو، بقيمة عشرين مليار دولار، ثم أَعلن مدير شركة «أوبن ايه آي» سام آلتمان (أحد أهم رموز التقدميين في السيليكون فالي) عن استثمار لبناء مراكز داتا في جنوب الأرجنتين تَبلغ قيمته الإجمالية عشرين مليار دولار؛ أي إنه خلال أشهر قليلة تمّ دعم النظام المتهالك لخافيير ميلي بستين مليار دولار أميركي.
أمّا الصين؟ فلم تُعطنا شيئاً يُذكَر أصلاً كي تتمّ مقارنته بما تُعطيه واشنطن لحلفائها، ورغم ذلك فإنّ أدواتها يروّجون بين الحين والآخر أن بكين مستاءة من «نوعية» حلفائها كلما تبيّن أن لدى دولنا خللاً اقتصادياً أو أمنياً.
هذه هي واشنطن وهذه هي بكين، ولذلك إن علينا أن نحارب أي دولة تسعى إلى مراكمة أي شكل من أشكال القوة المالية أو العسكرية، والأهم القوة البحثية العلمية، لأننا رأينا أنه حين كنا نُباد، كان أصدقاؤنا المفترَضون في بكين يَسخرون من ضعفنا، وأنه حين تَرفع حاضرةٌ إمبريالية شعارات أخلاقوية (مثل تعدّد الأقطاب والاحترام المتبادل) فإنّ ذلك سيكون في إطار الردّ على حاضرة إمبريالية أخرى، وحين لا تَعود هذه التقنية فعّالة فإنها تَعود إلى توحّشها النيّئ، غير المطبوخ.
للكاتب محمد فضل الله