05/11/2025
دولي 17 قراءة
زهران ممداني.. كيف دخلت فلسطين صناديق الاقتراع في نيويورك؟

الاشراق
الاشراق | متابعة.
"لطالما كان هناك شعور بأن من يتحدث دفاعاً عن فلسطين سيدفع الثمن، وأن لا مكسب من وراء ذلك سوى وضوح الضمير. لكن ما نراه اليوم هو أن دعم الحقوق الفلسطينية بات موقفاً علنياً لا يخجل أحد من تبنّيه".
زهران ممداني في مقابلة مع مجلة Jacobin (2023).
كان المرشح الديمقراطي زهران ممداني الفائز اليوم بمنصب عمدة نيويورك، يشرح في هذه المقابلة كيف تغير المزاج السياسي والإعلامي في الولايات المتحدة، وكيف صار الدفاع عن فلسطين جزءاً من النقاش العام بعد أن كان تهمة، ومن هذا الوضوح بدأ كل شيء. فالرجل الذي لم يخشَ أن يرفع صوته من قلب نيويورك دفاعاً عن غزة، هو نفسه الذي قرر أن يدخل الانتخابات من باب الدفع عن المستضعفين وحقوقهم، والتنديد بالإبادة في غزة، لا من باب "الإصلاح الضريبي" أو "الرفاه الاجتماعي" فحسب.
في مدينة تتقاطع فيها كل سرديات العالم، حمل ممداني السردية الفلسطينية إلى صناديق الاقتراع، لا كشعار أخلاقي، بل كمعيار سياسي. هكذا صار صوت فلسطين جزءاً من خطاب انتخابي في واحدة من أكثر مدن العالم حساسية تجاه كل ما يتعلّق بـ "إسرائيل".
ممداني، النائب الشاب الذي خرج من أحياء كوينز الشعبية ليصبح أبرز وجوه الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، لم يأتِ من فراغ، بل من تراكم وعي سياسي جديد يتجاوز الجدران القديمة التي كانت تفصل ما يُقال عمّا يُسمح بقوله.
في مدينةٍ تحكمها المصالح والمال والإعلام، حيث يُقاس الخطاب بميزان الحساسية تجاه "إسرائيل"، قرر ممداني أن يفتح النافذة على فلسطين، ويدخلها إلى النقاش العام، بلا تردد ولا حسابات انتخابية دقيقة.
المرشح الذي خاطب الناس في مقاطع مصورة بلهجات عربية مختلطة، وغنى في شوارع نيويورك للعدالة الاجتماعية، لم يكن يرى نفسه سياسياً مسلماً بقدر ما هو إنسان يرفض الظلم أينما وقع.
وحين اندلعت الحرب على غزة، لم يكتفِ بالتغريد أو التلميح، بل وصف ما يجري بأنه إبادة جماعية ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار ووقف الدعم العسكري الأميركي لـ "إسرائيل"، في موقف نادر لسياسي أميركي في موقعه.
بهذا الصوت، نقل ممداني النقاش من الهامش إلى المنبر. صارت فلسطين جزءاً من حملته، لا عبئاً عليها. لم يهرب من السؤال بل جعله محوراً أخلاقياً في خطابه كيف يمكن لمدينة مثل نيويورك، التي تفخر بأنها ملجأ لكل الهويات، أن تصمت عن معاناة شعب يُباد يومياً، والسلاح بمعظمه أميركي؟
ممداني، ابن المهاجر الأوغندي من أصول آسيوية، يحمل في سيرته ما يشبه رحلة البحث عن هوية عادلة في زمن توزّع فيه الحقوق على المقاس الإسرائيلي، لذلك لم يكن مستغرباً أن يجد دعمه بين الشباب، والأقليات، والليبراليين الغاضبين من ازدواجية المعايير الأميركية.
في تجمعاته الانتخابية، كانت الكوفية الفلسطينية ترفرف إلى جانب لافتات العدالة الاجتماعية. وكانت الهتافات تخلط بين "Free Palestine" و "Fair Rent" (الإيجار العادل)، لذلك فإن فوز ممداني في نيويورك لا يمكن قراءته كحدث انتخابي فحسب، بل كعلامة على تحول ثقافي عميق.
للمرة الأولى، يدخل اسم غزة ضمن خطاب انتخابي، لا كأداة تشهير، بل كرمز للعدالة. وهو ما قد يعني أن الجيل الجديد من الأميركيين لم يعد يرى في فلسطين قضية خارجية، بل مرآة لاختبار ضميرهم السياسي.
لكن هذا التحول لا يُريح الجميع. فالجمهوريون يلوّحون به كفزاعة، ويعيدون إنتاج الصورة النمطية عن المسلم الاشتراكي المعادي لـ "إسرائيل"، فيما يخشى الديمقراطيون أن يصبح وجهاً جديداً لحزبهم غير القادر على احتمال الأصوات الخارجة عن الخط المألوف.
لقد دخلت فلسطين صناديق الاقتراع في نيويورك على هيئة شاب أسمر، يخلط العربية بالإنكليزية، ويغنّي الهيب هوب، ويرفض التمويل من لوبيات الضغط، ويعدّ العدالة الاجتماعية طريقاً للسلام.
وفوزه اليوم ليس انتصاراً لمرشح أميركي تحدّث عن فلسطين، بل نقطة جديدة تسجل في فوز السردية الفلسطينية بالنقاطـ، وبصوت صار يُسمع من قلب المدينة التي لا تنام.
بالنسبة إلينا كعرب، لا يُختزل فوز زهران ممداني بمقعد أو مدينة، بل بالمساحة التي انتزعتها فلسطين داخل الوعي الأميركي. ما كان يُقال همساً في الجامعات بات يُقال على المنابر، وما كان يخيف المرشحين صار جزءاً من حملاتهم.
لكن، رغم رمزية هذا الفوز، ربما ينبغي عدم المبالغة في قراءته كتحوّل جذري في المزاج الأميركي. فممداني ما زال يمثل الجناح التقدمي داخل حزب يتعامل معه بحذر، إن لم نقل بشك. والقوى التي أيدته في نيويورك لا تعني بالضرورة أن الخطاب المؤيد لفلسطين بات مقبولاً في كل الولايات الأميركية.
الخوف الحقيقي لدى الديمقراطيين اليوم هو من اتساع رقعة "الممدانية" داخل الحزب، أي الخطاب الذي يربط العدالة الاجتماعية بالسياسة الخارجية، ويجرّ النقاش حول فلسطين إلى قلب النقاش الأميركي الداخلي.
لذلك، يمكن القول إن فوز زهران ممداني فتح الباب أكثر مما غيّر المعادلة.
فاطمة خليفة - كاتبة ومحررة