تهدئة تُدار بالتصعيد المدروس.. واشنطن تقنن الاشتباك!

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

إذا كان التصعيد الإسرائيلي دليلاً على هشاشة التهدئة في قطاع غزة، لكنه في جوهره - وربّما للمفارقة - جزء من محاولة لاستغلال الحادثة - الفرصة على أطراف رفح، لترسيخ تهدئة مستدامة تُدار عبر تصعيد محسوب، وفقاً لشروط تحدّدها واشنطن، وترعاها بدقّة. فوقف إطلاق النار في غزة، لم يعُد مجرّد تهدئة هشّة، بل ساحة اختبار لمدى قدرة الأطراف، خصوصاً حركة «حماس»، على التكيّف مع قواعد اشتباك جديدة، ترسم معالمها الولايات المتحدة.

وجاءت تصريحات نائب الرئيس الأميركي، جيه دي فانس، في هذا الإطار، والتي أكد فيها «استمرار» الهدنة، متوقّعاً ردّاً إسرائيليّاً على أيّ خرق، لتعبّر ليس عن دعم تكتيكي لتل أبيب فقط، بل عن رؤية إستراتيجية ترى في المرحلة الانتقالية بعد الحرب، فرصةً لإعادة ترتيب قواعد الاشتباك لمصلحة الأمن الإسرائيلي، لا التوازن الميداني.

ويَظهر جليّاً انعكاس هذا التوجّه في الواقع الميداني: فما يحدث اليوم - من مساعٍ إسرائيلية لتوسيع نطاق انتشار الجيش داخل مناطق كان متّفقاً على إخلائها -، لا يمكن فهمه بمعزل عن الغطاء السياسي الذي توفّره واشنطن لتل أبيب. ورغم خطابها المتكرّر عن «الاستقرار» و«الحلّ الدائم»، تسمح الولايات المتحدة لإسرائيل، عمليّاً، بإعادة تعريف مفهوم «الامتثال» للهدنة، بحيث يصبح أيّ نشاط عسكري إسرائيلي، حتى لو تجاوز الخطوط المعلنة، جزءاً من «الردّ المشروع» على انتهاكات يُفترض أن «حماس» ارتكبتها.

والنتيجة، واقع غير متكافئ: بينما يُطلَب من الحركة الالتزام الحرفي بكل بند، يُمنح الجيش الإسرائيلي هامش تفسير واسعاً، بدعم أميركي صريح أو ضمني، يتيح له توسيع نطاق عملياته من دون أن يُعدّ ذلك خرقاً للاتفاق، طالما أنه تحت سقف استئناف الحرب نفسها.

وفي حين يمكن النظر إلى هذه الديناميكية على أنها انعكاس طبيعي لتوازن القوى بين طرفَين غير متكافئَين، خاضا حرباً بلا ضوابط لعامَين كامليَن، لكنها في العمق، تكشف عن تحوّل أعمق: انتقال مركز القرار الإستراتيجي من تل أبيب إلى خارجها. فرغم القدرات العسكرية الهائلة التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي، فإن يده ليست مطلَقة تماماً، لا في المبادرة ولا وفي الردّ، وذلك بسبب وجود رقابة سياسية خارجية فعّالة.

وفي الكواليس، يُنظر إلى الوجود الأميركي جنوب إسرائيل، وخصوصاً في مركز التنسيق في كريات غات، باعتباره «غرفة تحكّم» تحدّد متى يُسمح لإسرائيل بالردّ، وأين، وبأيّ شدّة. وفي هذا السياق، لم يَعُد «الكابينت» الإسرائيلي صانع القرار النهائي، بل جهة تنتظر الضوء الأخضر من واشنطن، قبل اتّخاذ خطوة جوهرية، بل وأيضاً تكتيكية.

حلّت أميركا رقيباً على القرار الإسرائيلي، لضمان أن يتوافق مع مصالح «إسرائيل الدولة»

من هنا، بدأت تظهر - ولو عبر تسريبات في الإعلام العبري - دعوات داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لاستعادة المبادرة عبر وسائل لا تعتمد على التنسيق العلني: خلايا تكتيكية سرّية، بنك أهداف جاهزة للتنفيذ الفوري، أو عمليات دقيقة لا تترك مجالاً للتدخل الخارجي.
مع ذلك، ورغم «الامتعاض» في إسرائيل، إلّا أن الهدف الأميركي لا يمثّل ترجمة لموقف معاد لتل أبيب، بل هو يتوافق تماماً مع مصالحها: حلّت أميركا رقيباً على القرار الإسرائيلي، لضمان أن يتوافق مع مصالح «إسرائيل الدولة»، وليس الأشخاص القائمين على قرارها؛ وتلك واحدة من نتائج الحرب التي لم تستطع إسرائيل أن تنهيها بانتصار كامل، رغم كل الدعم والتغطية اللامتناهيَين من واشنطن والغرب عموماً.

وستكون أمام واشنطن مهمّة في مرحلة ما قبل ترسيخ الحلّ النهائي، الذي لن يكون بالضرورة ممكناً وفقاً لرؤية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بل بمواصفات تضمن لإسرائيل حرّية الحركة الأمنية «المشروطة»، مع التشديد في المقابل، على أن الطرف الآخر ملزَم ومطالَب بالجمود المطلق ميدانيّاً بلا أيّ خروق، حتى وإنْ كانت عابرة.

في ظل ّهذا «التوازن»، قد لا تكون «حماس» أمام خيار صعب فقط، بل أمام مستقبل يُكتب من دون مشاركتها الحقيقية، وفقاً لشروط ومحدّدات ترد من خارج حدود إسرائيل نفسها. على أن حادثة رفح والردّ الإسرائيلي عليها ليسا سوى حلقة ضمن سلسلة ممتدّة من العمليات الهادفة إلى ترسيخ قواعد اشتباك جديدة - قواعد لا تعلن صراحة، لكنها تفرض على الأرض -؛ فضلاً عن أنها جزء لا يتجزأ من المرحلة الثانية من خطّة ترامب لإدارة ما بعد الحرب: مرحلة قد تمتد طويلاً، بلا نهاية واضحة، وبلا حسم عسكري أو سياسي.

ويشكّل هذا الواقع تحدّياً مضاعفاً لِمن يتّخذ القرار في غزة، وللوجود الفلسطيني ككلّ، إذ يُدخله في حرب من نوع جديد: حرب لا تدار بالمواجهة، بل بالتحمّل؛ ولا تقاس بالانتصارات، بل بقدرة الطرف الأضعف على البقاء تحت وطأة مبادرة عسكرية إسرائيلية دائمة.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP