إبادة غزة ونهاية الإنسان!

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

في دراسته للنموذج الغربي الفكري والاجتماعي، يبيّن عبد الوهاب المسيري أن النازية والصهيونية ليستا، بأيّ حال، انحرافاً عن «الحضارة الغربية الحديثة»، بل تمثّلان تيارين أساسيين فيها، رغم أن الغرب يسوّق دائماً لفكرة أن النازية هي شذوذ وانحراف عن الحضارة الديموقراطية الغربية، وأن الأخيرة تحمل راية العدالة الإنسانية والتطور في عالم متخلّف، فهي النموذج الأرقى في التشريع لحقوق الإنسان، بل وللحيوان أيضاً، وكذلك لتحقيق الرفاهية والسعادة، حيث رُوّج للشعب الأميركي عن الحلم والفردوس الأميركي.

وفي تنظيره لفكرة «اللحظة النماذجية» -والتي اعتبر أنها تحقق دفعي، في ذروة التحقق، لأي أيديولوجية، على أرض الواقع، في مسار تجربتها التاريخية- اعتبر أن الحضارة الغربية تمظهرت وتحققت في ذروتها في اللحظة النازية.

هذا الغرب الذي وصل، في مرحلة الحداثة، إلى مركزية الإنسان في الحضارة الغربية بعد أن أزاح الإله عن المركز وأعلن موته -كما أعلن نيتشه- حيث لم يعد للإله مرجعية على مستوى القيم والتشريع والحكم، لم يكن يعني بالمفهوم «مطلق إنسان» وإنما عنى الرجل الأبيض الغربي الذي له حق مطلق في مقابل الكائنات البشرية الأخرى والتي انهزمت في معركة الصراع والبقاء الداروينية، لذا هي أشباه البشر/ أشباه الحيوانات، أو إذا أردنا الاختصار: حيوانات بشرية.

اليوم، في عصر ما بعد الحداثة، عصر النهايات والمابعد، تقول روزي بريدوتي -وهي فيلسوفة معاصرة- في كتابها «ما بعد الإنسان» -أي نهاية الإنسان- أننا اليوم نعيش نهاية مركزية الإنسان. وفي المقابل، توزّع هذه المركزية على أشياء أخرى كالحيوانات والروبوتات والذكاء الاصطناعي، بحيث أن الكل أصبح سواء وداخلاً في التسوية، فالإنسان اليوم في عرض الهرة والكلب والحشرات وحتى الأميبيا، وبعد أن كانت رسمة الرجل الفيتروفي لليوناردو دافينشي رمزاً لمركزية الإنسان، طرحت رمزية الحيوان الفيتروفي كبديل عصري.

فمسألة حقوق الحيوان التي كانت وما تزال تُطرح بقوة في الغرب، والتي اعتبرها البعض دليلاً على قمة الحضارة، لم تكن واقعاً مسألة حقوق الكائنات الأخرى المسخّرة للبشر، وإنما كانت تعني أنّ الكل يخضع لهيمنة القانون المادي ولا تميُّز لأي كائن على آخر وإن كان الإنسان نفسه المكرم في الكتب السماوية. ولذلك فإن ما يُعرف بحقوق الإنسان اليوم، لا يتعدّى كونه هيكل لفظي لا روح له ولا مدلول.

إنّ نظرية نهاية الإنسان ظهرت بعض إرهاصاتها في الفعل الاستعماري، واليوم بعد استيعاب العقل الغربي لهذه الفكرة، فإن اللاإنساني أصبح متشكلاً بشكل أوضح ومسيطراً في المجتمع والفكر؛ فصار من الطبيعي تقبّل ظواهر مثل الكلاب البشرية، والسماد البشري الذي تصنعه شركات من الجسد الإنساني بعد الموت وتجد لنفسها سوقاً مطلوبة، إضافة إلى معارض الأجساد الحقيقية والمكونة من أموات محنطين ومقطعين بطريقة فنية علمية!

في هذه المرحلة المزرية من تاريخ الحضارة الغربية، تهيمن نظرية أكثر «إبداعاً ونجاعة» وهي ما يُعرف بـ «نيكروبوليتيك»، أو سياسة الموت، هذه السياسة التي تتبناها حكومات الغرب حالياً بالكامل، تجاه باقي الشعوب، أو حتى شعوبها بدرجة ما. فسلطة الموت اليوم هي التي تحدد مَن يعيش ومَن هو صالح للحياة، ومَن يمكن الاستغناء عنه بالقتل والإبادة، وهي تخلق عوالم الموت، كما سمّاها المفكر أشيل مبيمبي، وذلك لتحقيق منفعة مجتمعية مجردة (حيادية)؛ تماماً كما فعل النازيون الذين أسسوا لمختبرات مرعبة، وذلك لإخضاع المعتقلين لتجارب علمية حيث توصلوا إلى نتائج باهرة ونافعة، فأبادوا مئات الآلاف من البشر من أجل هدف «حضاري» وهو تنقية العرق وتحسين النسل.

في ظل «سياسة الموت»، يشهد العالم تحوّلاً جذرياً في ممارسة الحروب، مولّداً أشكالاً جديدة لا إنسانية

الاستعمار الجديد، اليوم، والممسك بـ«سلطة الموت»، هو الذي يقرر أي المجتمعات يجب أن تُحذف من ساحة الحياة من أجل منفعة الرجل الأبيض الغربي وتسيّده على العالم، فيكون موت الآلاف، بل الملايين هو ضرورة حضارية.
في ظل «سياسة الموت»، يشهد العالم تحوّلاً جذرياً في ممارسة الحروب، مولّداً أشكالاً جديدة لا إنسانية، فـ«هيكلة ممارسة السلطة -سلطة الموت- لا تتعلق بعقلانية القانون وكونية القيم الأخلاقية، بل بإطلاق العنان للحق السيادي غير المقيّد في قتل وتشويه واغتصاب وتدمير حياة الآخرين».

وكما كانت إبادة عشرات الملايين من السكان الأصليين في أميركا وأستراليا، يدفع الغرب، في عصرنا، بـ«سياسة الموت» على العالم الإسلامي والعربي غرب آسيا، حتى كانت الذروة غزة بعد «طوفان الأقصى». فهي، اليوم، اللحظة النماذجية الصهيونية، حيث تتمظهر الحضارة الغربية الساقطة بكلّ المقاييس، والتي اضطرت أن تهدم بنفسها صرح النفاق المسمّى بالنظام والقانون الدولي، وتستمرّ في إبداع أساليب عجيبة من «التدمير المادي -الممنهج- للأجساد البشرية والسكان»؛ إنها تسحق الإنسان وتجهز على الجرحى والأطفال الرضّع على الهواء مباشرة، أمام مئات الملايين من المشاهدين من دون أن يرفّ لها جفن.

وإذا تأمّلنا ما قامت به الولايات المتحدة الأميركية في لبنان من الدفع نحو نزع سلاح المقاومة، وفي الوقت نفسه، هي تسعى بجهود حثيثة إلى إبقاء الجيش اللبناني غير مسلّح، رغم أنّها تدفع تابعيها في البلد لترديد هذه العبارة الهزلية: «حصرية السلاح بيد الدولة».

هذه السياسة ليست مجرد جراحة موضعية لهذا البلد المتعب صاحب المشكلات الكثيرة، لبنان، بل إن ما تقوم به هو تطبيق حرفي وكامل لـ«سياسة الموت» والذي تكمن إحدى أفكارها الأساسية في تفكيك الجيوش كلّها في الدول المعادية لها والحليفة وذلك لمصلحة «ميليشيات حضرية، وجيوش خاصة؛ جيوش الأرباب الإقليمية، شركات الأمن الخاصة، و"جيوش" الدولة والتي تدعي جميعها الحق في ممارسة العنف أو القتل»، ونتيجة لذلك فإنها تصنّف السكان، بوصفهم «متمرّدين أو جنوداً أطفالاً أو ضحايا لاجئين، أو مدنيين عاجزين ومبتورين». أمّا الناجون، فيُحصرون «بعد نزوح مروّع في المعسكرات ومناطق الاستثناء» -كما يوضّح مبيمبي.

وإذا نظرنا إلى الضفة الغربية وسوريا، فإن وضعهما يعدّ نموذجياً بامتياز بالنسبة إلى سلطة الموت اللاإنسانية؛ كيانات مجردة من أي وسيلة دفاع مركزية، وجماعات متفلتة متوحشة تجوب أرجاء المناطق السورية. بل إن الدول الحليفة ليست بأحسن حال، وما حصل في قطر أخيراً ليس استثناءً رغم أنها دفعت أموالاً ضخمة جداً من أجل الحصول على الحماية من الولايات المتحدة وكيان العدو. وكذلك ما حصل من لا إنسانية في التعامل مع ناشطي أسطول الصمود والمنتمين إلى بلدان مختلفة، وتصريح الناشطين أنفسهم أن هذا التعامل كان قاسياً وغير إنساني وإدراكهم أن هذه المعاملة القاسية والهمجية هي أقل سوءاً بكثير من معاملة الإسرائيليين مع الفلسطينيين.

أمّا بالنسبة إلى إعلان الاتفاقيات ووقف النار، فيصبح له تفسيرات متعددة عند هذه السلطة -سلطة الموت- بل قد يفقد معناه الأصلي من تهدئة الساحات للتحول إلى حالات قلقة من عدم الاستقرار وتمرير الخروقات الإرهابية؛ من السيولة المتعطشة إلى القضاء على آخر أنفاس الإنسانية.

هذه السياسة، اليوم، تسعى إلى التحكم بالموت والحياة بشكل كامل: «أنا أحيي وأميت». تضرب بقبضة حديدية وتضرب أي احتمال للمقاومة. لكن، ما لم يكن في حسبان سلطة الموت هذه، أنّه وفي ظل هذه المرحلة الصعبة المظلمة من التاريخ والتي يدفع بها الغرب نحو الوصول إلى ذروة الذروة من كارثية اللحظة النماذجية الغربية والتسيّد المطلق للإنسان الأعلى -السوبرمان- أي الغرب الصهيوني، أو الإله المطلق الأرضي المادي الذي تحدّى فكرة الله وأماتها و«أخلد إلى الأرض»... في ظل هذه اللحظة، تشرق شمس من نوع آخر، الروح يصعد ويصعد ليبلغ ذروة لحظته النماذجية المعاكسة، يقاوم حتى بجسد ممزق أثخنته الجراح المتعددة، لكنّه يصرّ بشكل إعجازي على تجسيد القيم الإنسانية بأجمعها، يحاول أن يقف سدّاً منيعاً أمام أيّ قوى ظلامية هدّامة، ليدافع عن الإنسانية عن فطرة الله الأزلي.

ذلك الروح تجلى في أنفاس أحرار الأمة والعالم. تعبّأ جمالاً وسكن فلسطين، عسى أن يأذن الله «للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير»؛ أن يأذن لإنسانيتهم أن تتسيّد وتنقذ العالم.

ميسون رضا - باحثة في الاجتماع السياسي

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP