من هافانا إلى بيروت... الصورة واحدة

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

بالأسود أو الأخضر، صورة مبخوخة على جدران عمارات بيروت، الملامح لا تضيع سهلة التمييز، وجه مألوف لا يخطئه المارة، رسم غرافيتي مأخوذ عن بورتريه للسيد الشهيد حسن نصر الله في فترة التسعينيات.

يدور نقاش بين شباب يعملون في المجال الثقافي، متى انتشر هذا الرسم ومن صاحب الفكرة، وهل تعود الصورة التي أخذ منها الرسم إلى بداية التسعينيات مع إعلان تعيينه أميناً عاماً لـ «حزب الله» عقب استشهاد السيد عباس الموسوي، أو خلال إحدى عمليات التبادل مع العدو الإسرائيلي عام 1998 عندما استعادت المقاومة جثامين شهداء من الحزب الشيوعي وحركة أمل وحزب الله بينها جثمان نجله هادي نصر الله.
من هافانا إلى بيروت... الصورة  واحدة

هذا الحوار يعيد إلى الأذهان قصة أشهر صورة في العالم، صورة أرنستو تشي غيفارا المعروفة باسم «غويرييرو هيروئيكو – Guerrillero Heroico»، أو «الثائر البطل». التقطها المصور الكوبي ألبرتو كوردا بالمصادفة خلال جنازة ضحايا انفجار سفينة «لا كوبري» في ميناء هافانا عام 1960. بينما كان يوجّه عدسته نحو الحشود، ظهر غيفارا فجأة بنظرة غاضبة، فالتقط صورتين فقط قبل أن يختفي في الصف الثاني. عاد كوردا إلى الاستوديو، وقصّ الصورة عمودياً، ليمنحها حياة جديدة تحت اسم «غويرييرو هيروئيكو».

بعد الرفيق... مصادفة الصورة مع السيد
كما يروي فيلم Chevolution (2008)، فإن صورة كوردا لم تُنشر في البداية، ولكنها تحولت بعد مقتل غيفارا عام 1967 إلى أيقونة عالمية، حين طبعت ملايين النسخ منها بفضل الناشر الإيطالي جيانجياكومو فلتريلي. هكذا صارت الصورة جزءاً من الذاكرة الجمعية للشباب والثقافة الثورية في العالم.


في المقابل، كانت صورة السيد حسن نصر الله معروفة ومتداولة على نطاق واسع منذ التسعينيات، بوصفها الصورة الرسمية للأمين العام الجديد لم تأتِ بالمصادفة، بل شكّلت بورتريه مقصوداً سرعان ما غزا منازل أهل الجنوب وأروقة الضاحية، وبين الشباب حيث تذكرهم بالسيد في شبابه، وبالمرحلة التأسيسية للمقاومة.

بالنسبة إلى الكثيرين، هذه الصورة أكثر حميمية من أي صورة أخرى، لأنها تُظهر القائد شاباً بينهم، وتخلق رابطًا عاطفياً مستمراً مع الجمهور. ولا يمكن تحديد من التقط صورة السيد بالضبط، وإن كان غالباً من الفريق الإعلامي لحزب الله، كما لم يُمنح الاسم الذي أطلقه كوردا على صورة تشي.

أما تحولها إلى رسم غرافيتي وبخها على الجدران، فكان على مرحلتين، الأولى خلال حراك 17 تشرين 2019، استخدم بعض شباب الحزب الصورة نفسها، بعد تحويلها إلى غرافيتي باللونين الأسود والأخضر على جدران قريبة من مكان الحراك في بشارة الخوري والضاحية، مع عبارة «يا معز المؤمنين»، تعبيراً عن العتب على طلب السيد الانسحاب من الحراك.

لاحقاً، ومع تطور الهتافات لتصبح مصحوبة بمطالب لسحب سلاح المقاومة، توقف الشباب عن نشر الغرافيتي، ولم يعد استخدامها إلا لاحقاً بعد اغتيال السيد حيث عاد الشباب أنفسهم لرش صورته في الضاحية وبيروت تحت القصف، في ما يشبه فعل مقاومة ثقافية يؤكد أنّ القائد حيّ في ذاكرة المكان وروحه، فكانوا يتجولون تحت القصف ويرشون صور السيد مرة جديدة على الجدران في الضاحية وسرعان ما وصلت إلى بيروت، مؤكدين أنّ الصورة تتمتع بقدرة على التعبير عن الولاء والاعتراض معاً، تماماً كما فعلت صورة تشي غيفارا عبر أجيال مختلفة.

ويمكن تحديد صاحب الفكرة، وهو الشهيد علي ياسين الذي كان يعمل في مجال الإعلام، ولم يثنه ذلك عن المشاركة في الحرب الأخيرة ضد العدو الإسرائيلي، وعرفه اللبنانيون عبر مقطع فيديو شهير خلال تصوير مقابلة مع السيد حسن نصر الله، ورغم أن علي لا يظهر في الفيديو، ولكن يُسمع السيد يخاطبه قائلاً «شو يا علي... شو بدّك؟ الخاتم؟ خدو... هلأ واسع على إصبعك منضيّقلك ياه». وتم تداول صورة لياسين مع الخاتم لاحقاً مع إعلان نبأ استشهاده.

الصورة كذاكرة جماعية وروح ملهمة
لا تزال صورة تشي التي التقطها كوردا تزين واجهة وزارة الداخلية في «ساحة الثورة» في هافانا، شاهدة على ستة عقود من المواجهة مع الهيمنة الغربية.

أما صورة السيد حسن نصر الله، فرغم محاولات التعتيم أو تقييد الاحتفاء بها سواء من قبل جهات سياسية لبنانية أو خوارزميات النشر الإلكتروني، إلا أنها حاضرة في الحياة اليومية للمؤمنين بالعمل المقاوم، على جدران الضاحية، في مداخل المنازل، على المكاتب، وفي وجدان الشباب الذين يجدون فيها رابطاً مع مرحلة تأسيسية، مع روح المقاومة، ومع ذكريات شخصية وحميمة عن القائد.

بعض الصور لا تموت، لأنها تتجاوز مجرد الإطار البصري لتصبح روحاً جماعية، تتوارثها الأجيال، وتحافظ على حضور صاحبها حياً في الذاكرة والوجدان، حتى بعد رحيله. صورة السيد هنا ليست مجرد بورتريه، بل رمز حي للقيم، للذاكرة، وللجذور التاريخية التي يعيشها الجمهور يومياً، في الذكرى الأولى لاستشهاده، لتظل الروح المستمرة بين الناس.

وفي هذا السياق تبرز قوة صورته كرمز جماعي حيّ استخدمها الشباب للتفاعل معه في حياته ووفاءً له بعد استشهاده. تماماً كما حدث مع صورة تشي غيفارا الشهيرة، تحوّلت صورة السيد إلى أيقونة بصرية تتجاوز حدود التصوير الإعلامي، لتصبح ذاكرةً جماعية وروحاً ملهمة للأجيال، تذكّر الجمهور بالقائد في شبابه، وبالفترة التأسيسية التي شكلت مسار المقاومة. ويتعامل جمهور المقاومة مع صور السيد معها كملكية رمزية عامة، تماماً كما اعتبر الكوبيون صورة تشي ملكَاً عاماً.

تقرير للكاتبة مروة جردي

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP