الدروز والاستشراق الإسرائيلي: المرآة والكسور!

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

في حدود ما تعلم هذه السطور، وفوق كلّ ذي علم عليم كما يصحّ التشديد دائماً، يظلّ كتاب المؤرخ الفلسطيني القدير قيس فرّو «الدروز في الدولة اليهودية: تاريخ موجز»، الذي صدر بالإنكليزية سنة 1999 عن منشورات بريل في لايدن/ بوسطن؛ المرجع الأرفع اشتمالاً ورصانة وإنصافاً، ثمّ (ولعلها السمة الأهمّ) الأعلى نقاءً وتخلّصاً من استشراق إسرائيلي صهيوني وحكومي وأكاديمي طاغٍ بصدد الدروز في دولة الاحتلال، ونقداً وتعرية في آن معاً.
وليس أكثر مواءمة من الحال الراهنة بين سوريا وائتلاف بنيامين نتنياهو لاستعادة كتاب فرّو، واستكشاف البواطن الأعمق للمزاعم الإسرائيلية حول حماية دروز جبل العرب، بالنظر إلى أنّ ما يُزعم على السطح ليس سوى أضاليل ذاتية الافتضاح، لأنّ الكيان الصهيوني الذي يواصل 21 شهراً من حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة ليس الجهة التي تتنطح لحماية أيّ جماعة أو أقلية خارج المكوّن الصهيوني/ اليهودي في الشرق الأوسط. أو، في صياغة أخرى لمشهد التضليل الإسرائيلي الراهن: أجدر بحكومة نتنياهو، الأكثر يمينية وتطرفاً وفاشية في تاريخ الكيان، أن تضمن لدروز ما بعد النكبة، داخل دولة الاحتلال، الحدودَ الدنيا من المواطنة في ضوء «قانون الدولة القومية لليهود».
ففي مقدمة كتابه يروي فرّو واقعة بالغة الدلالة، تشير إلى ما يُعرف من سياسات خافية أو معلنة تجاه دروز فلسطين ما بعد النكبة، و»تفلسف» الصهاينة روّاد تأسيس الكيان حول إفراد الدروز عن مكوّنات المجتمع الفلسطيني الأخرى. كما تسلّط ضوءاً كاشفاً، فضاحاً بدوره، على ذهنية تمييز عنصري وثقافي طبع الاستشراق الإسرائيلي، وثمة الكثير من العناصر التي تُلقي بالمستشرقين الإسرائيليين في السلّة الاستشراقية/ الاستعمارية الأوروبية، وتلك الأمريكية لاحقاً، ذاتها على وجه التقريب.
الحكاية بدأت في سنة 1994 حين طلب منه رئيس تحرير مجلة «طبيعة الأشياء» الإسرائيلية، وهي دورية عبرية على غرار «ناشيونال جيوغرافيك» الأمريكية الدولية، أن يكتب مقالة عن الدروز تلائم اهتمام قرّاء يهود في الغالب؛ فأعدّ الرجل مادّة حول تاريخ الدروز وعاداتهم، بعنوان «الدروز في إسرائيل والشرق الأوسط». وبعد أسابيع، وهو في انتظار تصحيح المقال طباعياً، علم فرّو أنّ ما أرسله لم يُنشر من دون إعلامه فقط، بل تغيّر العنوان إلى «ميثاق حياة، ميثاق دمّ»، مع صور فوتوغرافية اختيرت لإبراز «إسهام» الدروز في بناء دولة الاحتلال من خلال خدمتهم في الجيش الإسرائيلي.
وردّ الفعل الأوّل المندهش، يتابع المؤرخ الفلسطيني، سرعان ما انقلب إلى حال من عدم التصديق عند اكتشافه أنّ تغييرات التحرير لم تقتصر على العنوان، بل شملت النصّ بأسره، بحيث بات في العديد من النقاط معاكساً للمعنى الأصلي: الدروز، حسب التعديل، وُصفوا كـ»أمّة» بين موزاييك أمم الشرق الأوسط؛ والزعيم السنّي ضاهر العمر صار «مهتدياً» إلى العقيدة الدرزية. ونزولاً عند رسالة احتجاج شديدة اللهجة من كاتب المقالة، اكتفت المجلة بنشر اعتذار في عدد لاحق، برّر الأمر بأنّ التحرير رأى من الهامّ «إطراء الأمّة الدرزية»، لقاء «الولاء» الذي أعربت عنه لدولة الاحتلال، رغم أنّ المساواة التي وُعد بها الدروز لم تتحقق؛ الأمر الذي لم تنصّ عليه مقالة الرجل نهائياً.
وبكتب فرّو: «تبيّن الحادثة بوضوح تامّ كيف تواصل وسائل الإعلام الإسرائيلية تنشئة ‹صورة ذاتية› عن الدروز في إسرائيل لا يجمعها إلا القليل مع الواقع، بل هي بالأحرى ‹الصورة› التي شكّلتها عنهم السلطات الإسرائيلية والغالبية اليهودية: بينما ما كتبتُه ينحرف عن، ويتناقض مع، ‹الصورة الذاتية› إياها، فقد كان ‹من الطبيعي فقط› أن يتدخل رئيس التحرير لـ›مراجعة› ذلك؛ أي أن يمارس السلطة على النصّ الخاصّ بي. وكان ذاك بمثابة موقف يظلّ نمطياً هنا وهناك لدى المسؤولين الإسرائيليين وما يُسمى مستشاري الحكومة، ممّن يزعمون ‹معرفة ما هو صالح وما هو طالح› للجالية الدرزية».
ولا تفوت المؤرخ الفلسطيني ضرورة مساءلة الخلفية الصهيونية الأبعد وراء هذا التمثيل المفتعل، الإنشائي تماماً حسب تشخيص إدوارد سعيد لستراتيجات الخطاب الاستشراقي عموماً: «في كلمات أخرى»، يتابع فرّو، «يجري تصوير الدروز كصورة مرآة لـ«الديانة/ الجالية/ الأمّة اليهودية»، وهي صورة قيد التوظيف منذ مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم، حين شرع الصهاينة في تأسيس صلاتهم الأولى مع الدروز. والحقّ أنّ هؤلاء الدروز/ الأمّة كانت لهم ملامح خاصة ومصير خاصّ أفردهم عن الأمم (…) هنا أيضاً، يتوحد الدين مع القومية، بحيث يصعب الفصل بينهما. وهذه، كذلك، أمّة مشابهة للأمّة اليهودية من حيث الشتات».
وفي المقابل، لا يصحّ إغفال وقائع التوتر بين مجموعات درزية ومسلمة ومسيحية التي شهدتها أراضي الـ48، في الجليل تحديداً على شاكلة شفا عمرو والرامة والمغار وعيلبون وكفر ياسيف وسواها؛ أو التوترات الداخلية الدرزية ـ الدرزية في بلدات وقرى الجولان السوري المحتل، على خلفية المواقف من النظام السوري البائد أو تحوّلات سوريا ما بعد 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024. ومن السذاجة، استطراداً، خفض مفاعيل حقيقة موازية تفيد بأنّ الاستشراق الإسرائيلي يقتات على هذه الحال حين يكون، نادراً في الواقع، بحاجة إلى ذريعة كي تعكس مرآة التحريف الصهيونية الصور الفعلية إلى نقائضها، أو إلى كسورها المتشظية.

تدوينة للكاتب صبحي حديدي وتابعتها الإشراق.

 

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP