كتب "الجوارح" و"البواسل".. هاني السعدي: صنع ذاكرة ورحل

ishraq

الإشراق  | متابعة.

كتب "الجوارح" و"الموت القادم إلى الشرق" وغيرهما من أيقونات الدراما السورية. من هو السيناريست هاني السعدي الذي رحل عنّا قبل أيام؟ وكيف أسّست أعماله لانطلاقة الدراما السورية عربياً؟

غادرنا يوم الجمعة الماضي، السيناريست السوري، هاني السعدي (1948 - 2025)، بعدما أثرى الدراما السورية بمخيّلته وأفكاره التي أسست لفتوحات نوعية. إذ إنه أسّس لمفهوم الفانتازيا التاريخية في الدراما التلفزيونية، المُتحرِّرة من عنصري الزمان والمكان، والمبنية على أحداث وحكايات قابلة للتصديق باستمرار، وحبكاتها مرسومة بعناية وبتصعيد متواتر يعزز التشويق ويسعى لديمومته، ولذلك فإن أهم ما يميز أعماله ضمن ذاك النوع أنها تبقى طازجة في طروحاتها، ولا فترة صلاحية لها بالمعنى التقليدي، وإنما سيرورة متتالية من الألق والمتعة والتَّرقُّب لما تبتكره مخيلة ذاك المبدع السوري الأصيل، وهو ما شاهدناه في "الجوارح"، "البواسل"، "الكواسر"، "الموت القادم إلى الشرق" وغيرها. 

السعدي لم يستكِن لنجاح فانتازياته التاريخية، ولم يتعامل معها كسلعة رائجة حققت لاسمه انتشاراً واسعاً على صعيد الوطن العربي، بل آثر أن يُحقق اختراقات موازية على صعيد الدراما الاجتماعية، من خلال الغوص في مواضيع لم يسبق أن تناولتها، وكان لها الكثير من المحاذير. لكنه بالجرعة ذاتها من تفتُّح المخيلة استطاع أن يُنشئ مساره الخاص فيها، مُركِّزاً من خلال معالجات ذكية على نوع درامي توعوي، ينبِّه فيه إلى الكثير من المثالب الاجتماعية، لكن من دون أي نوع من المباشرة أو الخطابية، فمثلاً في "أبناء القهر" عالج قضية الأطفال المشردين والإدمان على المخدرات والإصابة بمرض "الإيدز"، وحقق نجاحاً خاصاً عبر الصدمة التي تركها عند المشاهدين. 

أما في مسلسل "حاجز الصمت" فركز على مخاطر انتشار "الإيدز" في المجتمعات العربية، إلى جانب العديد من القضايا النفسية والمجتمعية والاقتصادية التي تشكل بيئة مناسبة لذاك الاستشراء، وخاصةً لدى جيل الشباب التائه. 

وبنظرة شاملة على مجمل الأعمال الدرامية التي وضع توقيعه عليها من مثل "حارة نسيها الزمن"، "دائرة النار"، و"غضب الصحراء"، "خلف الجدران"، "الخط الأحمر"، "عصر الجنون"، "أسياد المال"، "خط النهاية"، "قتل الربيع" وغيرها، نستطيع تلمس قدرته العالية على الموازنة بين أهمية القضايا التي يتناولها والكيفية المميزة في معالجتها، لا سيما أن هناك دائماً ما يريد قوله من خلال دراماه مع التأكيد على قيمة ذاك القول على صعيد الشكل والمضمون. إذ طالما كان مهموماً بمجتمعه، وهاجسه الدائم أن يشير إلى مكامن الخلل فيه، ساعياً إلى تصحيح مساراته وتقويم اعوجاجه، إن لم يكن بأسلوب الصدمة والمغالاة في تضخيم المشكلة، فمن خلال إسقاطات تاريخية على واقعنا المعاش سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

هاني السعدي ومقاربات حياتية

ولعل مقاربة الدراما التي كتبها  ستجيبنا عن  سؤال: لماذا كل هذا الهمّ والاهتمام الذي أولاه هاني السعدي بالمجتمع عبر نصوصه؟ 

هاني السعدي من مواليد النكبة الفلسطينية عام 1948. نزح في رحم أمه من صفورية إلى سوريا، ومكثت عائلته بدايةً في منطقة جوبر وهناك وُلِدَ ضمن جامع البخاري وقضى أول سنتين من حياته في رحابه قبل أن ينتقل أبوه ووالدته مع أولادهما إلى مخيم اليرموك ويؤسسا سكنهما الجديد هناك. 

درس هاني في مدارس "الأونروا" وإلى جانب ذلك عمل في عدة مهن منها النجارة والدهان والجزارة وآخرها على عربة خضار وفواكه كان والده يعمل عليها، لكنَّه كان يجرُّها إلى حَيَّي المالكي وأبو رمانة الراقيين، لأنه منذ ذاك الحين كان يضع نصب عينيه أنه لن يكون على الهامش بل في متن المتن. 

وبعد أن أنهى دراسته صار مُدرِّساً في مدارس "الأونروا" المخصصة للأطفال الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته، انتسب إلى نقابة الفنانين عام 1973 كممثل، وبعد سنوات من التدريس والتمثيل بدأت تتشكل لديه شيئاً فشيئاً ملامح السيناريست الأصيل. إذ نَهَلَ من كل شيء، من نزوحه وعيشه في مخيم اليرموك ذي الصبغة الدرامية المميزة، ومن المهن العديدة التي مارسها وغذَّته في آلية التعاطي مع أصناف متنوعة من البشر، ثم اشتباكه مع الأطفال الذين علَّمهم زادته معرفةً بعالمهم الفريد التي أضافها إلى تعاطيه مع بناته الخمس، ليأتي أخيراً امتهانه للتمثيل ليمدُّه بالخطوات الأولى في كتابة السيناريو وذلك من خلال التدقيق في تفاصيل كتابة الأعمال التلفزيونية والسينمائية التي شارك فيها. 

كما لا ننسى شغفه القديم بالقراءة والكتابة الذي دفعه لأن يكتب القصة والشعر والرواية، إلى جانب العديد من البرامج الإذاعية، وسيناريو فيلم سينمائي بعنوان "بوابة الغزلان" شارك في بطولته فريد شوقي وسميرة توفيق، ليتبعه بسيناريو فيلم تلفزيوني تأثر فيه من تجربته في بيع الخضار وحمل الفيلم اسم "خيال بائع جوّال" أخرجه الراحل حاتم علي. 

ورغم مشاركة هاني السعدي في العديد من المسلسلات والأفلام المهمة من مثل "أسعد الوراق"، "الحدود"، "تجارب عائلية"، "أبو البنات"، "حارة نسيها الزمن"، و"آخر الفرسان"، إلى جانب الشخصيات التي جسدها على المسرح خاصةً في أعمال سعد الله ونوس "حفلة سمر من أجل خمسة حزيران"، و"رأس المملوك جابر"، واشتغاله مع "المسرح الوطني الفلسطيني" تحت إشراف المخرج العراقي جواد الأسدي، لكنه وبنصيحة من مجموعة من أصدقائه المخرجين المتألقين كهيثم حقي ومحمد عزيزية بعد أول أعماله في كتابة السيناريو، كانت بأنه ككاتب أهم بكثير من كونه ممثلاً، وهو ما أدركه واقتنع به تاركاً التمثيل عام 2002 ليتفرغ للكتابة، ورغم أنه صنع الذاكرة الدرامية لكثيرين، لكن مفارقات القدر أنه أصيب في عامه الأخير بالزهايمر، ولم يعد يتذكر حتى بناته اللاتي عشقنه وعشقهن لدرجة لا توصف.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP