عدّ عكسي: ملحمة وجودية عن الاستمرار الإنساني

ishraq

الاشراق | متابعة.

بعدد كبير من الدمى المتنوعة الأحجام، والمشغولة بحرفية عالية، تقدم هنادة الصباغ في "عد عكسي"، ملحمة وجودية عن الاستمرار الإنساني، وتحلق في نوازعه بين الانكسار والفرح والعبث واللامبالاة والمسؤولية، لكن بالتركيز في الإصرار على المتابعة وخوض المصاعب والتحديات مهما بلغت من خطورة.

فبعد سنوات على عرضها المتميز "حياة من ورق"، تطل المخرجة والمصممة السورية، هنادة الصباغ، على جمهور المسرح السوري بعمل جديد مخصص للكبار مثل العمل السابق، وبجهد سنوات من النحت والصناعة الفنية المبهرة، لتقول إن هذا النوع من المسرح له أهله وأخصائيوه الذين يحملونه بروح من المسؤولية العالية، خصوصاً وأن الاستسهال قد غزا هذا الجانب من الفن بعد سنوات الحرب الطويلة، إلى درجة الإساءة لمسرح الدمى والعرائس عموماً.

تهتم الصباغ بتفاصيل كثيرة، إلى الدرجة التي تُغرق العمل فيها. لكن هذه التفاصيل هي العمل كله. إذ يحتاج كل تفصيل إلى مجموعة من الدمى تنقل الحالة وتوضح الفكرة. فمن مشهد الموت في البداية حيث الروح الهائمة فوق المقبرة أو المحلقة فوقها، ومن ثم المعزون والمعزيات، ثم العودة إلى الحياة وتفاصيلها ومصاعبها وتدخل القدر فيها، إلى الانتقال عكسياً إلى الشباب والحب والزواج، وصولاً إلى البداية الرحمية التي ينتهي فيها العرض بدمية على شكل جنين في رحم أمه.

في "عد عكسي" (مسرح الحمراء - من 15 إلى 25 تشرين الأول/أكتوبر 2024)، لا يوجد حوار، وليس من لغة سوى صوت الموسيقى التي عبرت بعمق وأوصلت نسيج الحكاية ومعانيها إلى الجمهور، فكانت صوت الحكاية كلها منسجمة مع الطبيعة، وصولاً إلى المشاعر المختلفة التي مرت بحياة الإنسان، وكذلك مشاعر محيطه، لعباً وضيقاً وحباً كما سلف. تناغم مبهر بين موسيقى المؤلف والمخرج الموسيقي الفنان، سامر الفقير، وبين حركة الدمى على المسرح، وانتقالات مبدعة وسلسة بين حالات تصل إلى التناقض، مررها الفقير بإبداع ورشاقة.

فكرة هنادة الصباغ وشغلها وتصميمها للدمى وإخراجها، حملتها الموسيقى، لحناً وتوزيعاً. فإحساس المؤلف الموسيقي بالحركة انتقل إلى الجمهور بكل هدوء، كأنه كان يجلس بين الجمهور عندما ألف هذه التحفة الموسيقية.

لكن مثل هذا العمل الكبير لا يمكن أن يكتمل إلا بالإضاءة. فقد قدم المخرج، أدهم سفر، رؤية بصرية مذهلة، وكان القمر الذي أضاء العمل. 

ثلاثي مبدع، أو ثالوثٌ إبداعي سوري، هنادة الصباغ المتفردة في مسرح الدمى محلياً وعربياً واستطاعت بفرادتها ومثابرتها أن يحتل هذا التميز السوري مكانه عالمياً، وسامر الفقير الذي أبدع وأبهر وأخرجنا من حالة الفقر في التلحين السوري إلى ثراء كبير، وأدهم سفر المبدع الاستثنائي الذي عبر أحد الحضور أنه لا يمكن أن يكتمل عمل أو يتميز في سوريا من دونه. هذا الثلاثي قدم عملاً قال بكل بساطة إن سوريا بعد هذه السنوات الطويلة من الحرب، ما زالت تبدع وتتميز، وأن إنسانها حي يولد من جديد ويبني.

ولا بد من العودة إلى البدء في هذا الفن المسرحي، وهو العودة إلى لاعبيه الأساسيين الذين من دونهم لا يمكنه أن يكون ولا يمكنه الاستمرار، وهم الجنود المجهولون محركو الدمى، وقد كانوا بمنتهى الانسجام والتناغم، وقدموا عملاً كاملاً بحرفية عالية وبإحساس ملفت عوض عن الحوار من خلال إعطاء المحركين للدمى روحاً عبر حركتها حزناً وفرحاً وعملاً ورقصاً وانكساراً.

فقد كان المحركون مبدعين محبين حاملين روح العمل، وهم: أيهم الشيشكلي، ورندا الشماس، وزينب ديب، وندوة الصواف، وجوري أكتع، وأحمد العبد، ولؤي الحلبي، ومحمد إبراهيم، وقصي سليمان.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP