في ضرورة مراجعة موقع قوى المقاومة في منظومة الأمن العربي المشترك

الاشراق|متابعة 

تُرى كتلة الدول العربية عقب أربعة عقود من التطبيع مفكّكة، يحارب بعضها بعضاً أحياناً كثيرة، وتستبيحها الأطماع الجيوسياسية لمشاريع غرمائها وأعدائها وفي مقدّمتهم الكيان الصهيوني المهووس بمبدأ "قسّم من أجل أن تسود".

يُقرأ قرار تراجع الجامعة العربية عن تصنيف حزب الله "منظّمة إرهابية" على أنّه تصحيح "متأخّر" جرى على منظومة التصوّرات الأمنية للجامعة التي على أساسها حُدّد من هو الصديق ومن هو العدوّ في معادلة الأمن العربي طيلة عقد مضى على الأقلّ. وكما ينطبق الحكم السابق على الجامعة فإنّه ينطبق أيضاً على بعض أعضائها الذين سوّقوا لهذه الأطروحة، ودفعوا نحو استعداء كلّ من يتبنّى خيار المقاومة على شاكلة حزب الله وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، دافعين بذلك نحو التقرّب العربي من الكيان الصهيوني.

والحقّ أنّ التراجع عن تصنيف حزب الله "منظّمة إرهابية"، مهما حاول البعض التقليل من شأنه، سيؤدّي لا محالة إلى تغيّرات تدريجية في صياغة الواقع الأمني العربي وفي طبيعة العلاقات العربية مع الحزب، مع حماس، ومع كل الدول والفواعل التي رفضت تبنّي أطروحة الجامعة واستمرّت في مواقفها المؤيّدة للمقاومة.

إنه جزء من وعي أتى متأخّراً في إثر طوفان الأقصى، وكلّ معارك المقاومة ضدّ الكيان التي سبقته، سيؤدّي إلى مراجعات عميقة ويعيد إحياء النقاش حول مسألتين في الأقل: التطبيع و"جرائره" الأمنية أوّلاً، ومكانة قوى المقاومة في منظومة الأمن العربي ثانياً.  

لقد بات مؤكداً بما لا يقبل النكران أنّ الدول العربية سيقت إلى خراب منظومة أمنها المشترك لمّا سارت في مسار التطبيع، ويرى الناظر إلى حالها كيف تكاد الهوية الأمنية العربية المشتركة التي تتخذ قاعدة لتعريف العدوّ والصديق تنقلب رأساً على عقب بعد ما يربو عن ثلاثة عقود من التطبيع، لولا ثبات بعض الدول العربية عليها إلى غاية الآن: فمن حالة الإجماع العربي على استعداء الكيان الصهيوني ومحاربته، مالت الكـفّة تدريجياً نحو استعداء الفواعل التي تستعديه، وصار "شقيق" الأمس عدو اليوم لا لشيء إلا لأنه ظلّ ثابتاً على استعداء عدو الأمس رافضاً للتطبيع معه، وبدل أن تدرج هذه الفواعل وقدراتها في معادلة الدفاع والردع العربية في سياق المواجهة مع الكيان ومشروعه صُنّفت في خانة الإرهاب، ضُرب الحصار عليها، وشنّت ضدّها الحروب بالتمويل وبالمرتزقة وبالسلاح.. وبالإرهاب أيضاً. 

باختصار، تلك الهوية الأمنية العربية المشتركة التي كانت حقيقة خاض العرب بموجبها حروب 1948، 1967، و1973 معاً ضد الكيان باتت ذكرى وخيالاً، وإذا ما ارتكزنا على تصنيف قوى المقاومة في قوائم الإرهاب كقاعدة لقراءة المشهد الأمني العربي سنجد بأنّ العرب لم يكتفوا باستيراد أمنهم من الغرب فحسب بل استوردوا من عنده أيضاً تعريفه للتهديد، فانبروا يتودّدون إلى أصدقائه ويعادون من يعادي.   

في المحصّلة، تُرى كتلة الدول العربية عقب أربعة عقود من التطبيع مفكّكة، يحارب بعضها بعضاً أحياناً كثيرة، وتستبيحها الأطماع الجيوسياسية لمشاريع غرمائها وأعدائها وفي مقدّمتهم الكيان الصهيوني المهووس بمبدأ "قسّم من أجل أن تسود" في سياساته مع العرب والمسلمين. 

ثمّ تدحرج الضعف والتفكّك من المستوى الإقليمي إلى المستوى القطري، وصرنا نرى الدول المطبّعة مخترقة السيادة وشبه فاقدة لاستقلالية قرارها الأمني والاستراتيجي حتى حين يتعلـّق الأمر بتهديدات تمسّ بأمنها الوطني تقع في جوارها الجغرافي المباشر. وليس أدلّ على هذا الضعف من العجز العربي عن إغاثة غزة التي تباد رغم قرار كسر الحصار وفرض إدخال المساعدات إلى قطاع غزة الصادر عن قمة الجامعة العربية بالرياض في تشرين الثاني/نوفمبر 2023.

هكذا هو المشهد بكل مآسيه، من كتلة تحارب جماعياً كياناً "غير طبيعي" إلى دول مشتّتة فاقدة للتأثير الاستراتيجي وعاجزة حتى عن فرض إدخال الماء والطعام إلى "أشقاء" تركهم العالم يواجهون حتفهم أمام آلة الإبادة والهمجية الصهيونية. وليت هاوية التنازل السحيقة أفضت إلى أيّ تقدّم في ملف استعادة فلسطين والقدس، بل على العكس، لم نرَ تقدّماً إلا في مشاريع التصفية والتهجير والإبادة. 

لسنا نرنو من الأسطر السابقة إعطاء تقييم شامل لتجربة التطبيع بقدر ما نريد تأكيد أنّ ضياع البوصلة الاستراتيجية والأمنية العربية التي على أساسها يحدّد من هو الصديق ومن هو العدو هو جريرة من جرائر مسار التطبيع الذي هُيّئ للأمة العربية، وما تصنيف الجامعة العربية وبعض أعضائها حزب الله ـــــ وحماس أحياناً ـــــ في خانة الإرهاب إلا واحدة من نتائج هذا المسار.

إننا حين ننظر إلى مغبّة التطبيع على الأمن العربي المشترك وعلى الدول التي طبّعت ندرك سبب الإصرار عليه من القوى الراعية له التي لا تتوانى عن تقديمه في صورة الخلاص الأبدي للأمّة العربية وشعوبها، وندرك في الآن ذاته ما الذي أنقذت حركة المقاومة الإسلامية الأمة منه في السابع من أكتوبر، ولما يحدث الإصرار على نبذها ـــــ هي وقوى المقاومة ـــــ من منظومة الأمن العربي وتصنيفها كتهديد له. ولا شكّ أنّ كلّ متحمّس لمشروع التطبيع منبهر بقوة الكيان الوهمية التي سوّق لها طيلة عقود خلت، وهو يرى قابلية الكيان للانهزام على أيدي قوى المقاومة داخل فلسطين وخارجها، سيراجع حتماً خياراته بمجرّد أن يثوب إلى رشده ويعيد حساباته على قاعدة العقلانية. 

وليس من المبالغة في شيء القول بعد هذا أنّ كلّ دولة كانت تسير نحو قعر التطبيع السحيق فجاء طوفان الأقصى وأنقذها منه مدينة هي وشعبها لقوى المقاومة بالحفاظ على جزء من أمنها وسيادتها، وبمجرد أن يحلّ أوان المراجعات الكفيلة بإعادة تعريف أعداء وأصدقاء الأمّتين العربية والإسلامية الحقيقيّين، وتزول غشاوة التطبيع، سيدرك الصادقون في عدائهم للكيان الصهيوني أنّ المقاومة كانت تدافع عنهم تماماً مثلما كانت تدافع عن فلسطين والقدس، وأنّ التشويه الذي طالها لم يكن بسبب أفعالها ـــــ التي تدعو إلى الافتخار ـــــ بل كان مردّه الغفلة التي ساقت العرب إلى استيراد مفاهيمهم للأمن والتهديد وتصوّراتهم للصديق والعدو، حينها لن تُدرج قوى المقاومة كقطعة مفصلية في منظومة الأمن العربي فحسب بل ستوضع في مركزها قبل كلّ القوى الأخرى التي سينظر إليها حينها بعين الارتياب. 

حتى إذا أخذنا معادلات الردع كمعيار للحكم سنجد أن الردع الفعّال الوحيد اليوم مع الكيان هو الردع الذي تمارسه كتائب القسّام وسرايا القدس وحزب الله وأنصار الله، وفي حسابات الخسارة التي تقام على أساسها الخطط الأميركية والصهيونية لإنهاء الحرب لا تؤخذ في الحسبان إلا الخسائر التي ألحقتها القوى السابقة بالكيان و"جيشه".  

لا غرو إذاً بعد كلّ هذا وبعدما رأينا ما صنعته (وما تصنعه) معركة طوفان الأقصى، أن إعادة موضعة قوى المقاومة في بنية الأمن العربي المشترك وتصحيح التصوّرات عنها وعن أدوارها القومية لم تعد مجرّد ترف عاطفي يرتكز إلى شعارات ديماغوجية واصطفافات أيديولوجية كما يحلو للبعض أن يسمّيها، بل هو أولاً وقبل كلّ شيء اعتراف يمليه كلّ تقييم عقلاني للمعطى الراهن، وهي حتمية أمنية واستراتيجية لإنقاذ ما تبقّى من سراب وحدة أمن ومصائر الأقطار العربية، وضرورة لا مناص منها لإعادة بعث مواجهة أوسع مع كيان ترى بالعين المجردة قابليته للانهزام والاندثار.