كي لا ننسى غزة بعد وقف العدوان

الاشراق|متابعة 

قلة من وسائل الإعلام بمختلف أشكالها ستكون في مرحلة ما بعد العدوان أمام امتحان آخر مكمل لتغطيتها ليوميات العدوان ومجازره، سيّما أن مرحلة ما بعد العدوان لا تقل أهمية عن أيام العدوان نفسه،

 

عاجلاً أم آجلاً سوف ينتهي العدوان الإسرائيلي على غزة، وتنتقل وسائل الإعلام والمنصات الرقمية إلى الاهتمام بحدث آخر، قد يكون داخل المنطقة العربية أو خارجها، لكن من المؤكد أن الخبر القادم من قطاع غزة لن يحظى بالمساحة نفسها المعطاة له حالياً في العديد من وسائل الإعلام والمنصات الرقمية.

وهذا واقع تكرر كثيراً خلال السنوات الماضية، إذ طغت الأحداث الكثيرة التي شهدتها المنطقة منذ ما سمّي بـ"الربيع العربي" على الخبر الإعلامي الفلسطيني باستثناء بعض التطورات الخاصة الرئيسية، كالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في العام 2014.

عندئذ، ستغيب معاناة مئات آلاف الفلسطينيين ممن فقدوا منازلهم وأعمالهم وممتلكاتهم بفعل القصف الصهيوني لمدن القطاع ومناطقه عن تغطية معظم وسائل الإعلام العربية والعالمية.


آنذاك، لن يشعر العالم بحجم العذاب الذي يعيشه مرضى السرطان والكلى وغيرهم من جراء فقدان الدواء وخروج المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة، وسيكون شهداء وجرحى العدوان قد أصبحوا بالفعل مجرد أرقام في ذاكرة دول كثيرة، ولا يستحقون فتح تحقيق دولي أو مجرد التذكير بقصص حياتهم ولحظات استشهادهم.

وهذا يعني أن القضية الفلسطينية لن تخرج عن دائرة الخطابات المطالبة بتطبيق القرارات الدولية وإقامة الدولة الفلسطينية، يقابلها كالعادة عدوان صهيوني جديد يتجاوز الاعتداءات اليومية، وذلك تأكيداً لرفضه السلام وإعادة الحقوق العربية.

حياة الفلسطينيين
قلة من وسائل الإعلام بمختلف أشكالها ستكون في مرحلة ما بعد العدوان أمام امتحان آخر مكمل لتغطيتها ليوميات العدوان ومجازره.

ومرحلة ما بعد العدوان لا تقل أهمية عن أيام العدوان نفسه، الذي ربما يكون قد توقف كعمل عسكري واسع، بيد أنه سيبقى مستمراً وحاضراً بأوجه كثيرة تفرض نفسها على وسائل الإعلام المهنية والملتزمة بقضايا الشعوب وحقوقها العادلة.

ومن بين الموضوعات التي يمكن أن تشكل محتوى إعلامياً مستداماً في التغطية المستمرة للحياة في قطاع غزة ما يلي:

- التذكير المستمر بضحايا العدوان الصهيوني، وذلك من خلال سرد قصص إنسانية عن حياة هؤلاء قبل استشهادهم وأثر ذلك على أسرهم وعائلاتهم، فهم في النهاية ليسوا مجرد أرقام وصور كما يحاول العالم الغربي بحكوماته الداعمة لـ"إسرائيل" ووسائل إعلامه تصويرهم.

وهذه ربما تكون أيضاً إحدى المسؤوليات الوطنية والقومية للدراما والسينما العربية، التي يمكنها مخاطبة الضمير العالمي بأفلام ومسلسلات توثق حكايات وقصص استشهاد هؤلاء، لا سيما الأطفال والأسر المستشهدة بكامل أفرادها. ولعل الملحمة الكبيرة "التغريبة الفلسطينية" أنموذجاً يحتذى به.

- متابعة الانعكاسات السلبية للعدوان الإسرائيلي على حياة سكان قطاع غزة في جميع المجالات، بدءاً من تدميره لأكثر من 60% من الوحدات السكنية، وتالياً اضطرار آلاف الأسر للإقامة في الخيم والنوم في العراء، إلى إخراج جميع المطاحن ومحطات المياه والمستشفيات عن الخدمة، وما يشكله ذلك من إرهاق كبير للأسر في تأمين احتياجاتها من الغذاء والعلاج.

ففي جميع الحروب السابقة التي شنتها "إسرائيل" على قطاع غزة لم يقف الرأي العام العربي والعالمي على يوميات الأسر التي دُمرت منازلها وممتلكاتها، فلا يعرف كيف تعيش، وأين تنام، وماذا تأكل... إلخ.

- متابعة رصد المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية للقطاع والضفة من حيث مؤشرات الأمن الغذائي والفقر والبطالة والصحة، فالعدوان الحالي على قطاع غزة وما خلفه من دمار وتخريب للمنشآت الصناعية والحرفية وتجريف للأراضي الزراعية وفقدان آلاف الوظائف وفرص العمل من شأنه أن يعمق من مؤشرات الفقر وانعدام الأمن الغذائي وزيادة عدد الفلسطينيين الذين هم بأمس الحاجة إلى المساعدة لتأمين أبسط احتياجات البقاء.

- تسليط الضوء على تأثيرات الحصار الصهيوني للقطاع منذ أكثر من 15 عاماً في حياة السكان ومستقبلهم ومعيشتهم، والذي كان من الطبيعي أن يعزز خيار المقاومة لدى غالبية الشعب الفلسطيني في مواجهة عدو يستبيح حتى حق المواطن الفلسطيني في حياة كريمة وآمنة.

ورصد آثار الحصار عبر أرقام ومؤشرات أو صور تجوب أرجاء العالم، لأن جل اهتمام وسائل الإعلام المملوكة من اللوبي اليهودي تحاول تصوير قطاع غزة على أنه ليس أكثر من قندهار جديدة، وليس فيه سوى متطرفين يريدون حرق اليهود مرة أخرى.

- وتأكيداً على أن قطاع غزة بقعة جغرافية تعادل في إنسانيتها وحبها للحياة والسلام مساحة الولايات المتحدة الأميركية وأوروباً معاً، فإنه من الضروري كذلك التركيز على الجوانب الإنسانية والعلمية المضيئة في حياة الغزيين، وإصرارهم على أن تكون لهم إسهامات حضارية وعلمية من قبيل تسليط الضوء على الشخصيات الفلسطينية المؤثرة في المجتمعات والدول العربية والغربية، والتي جاءت من غزة حاملة معها قيم الشعب الفلسطيني المحب للحياة والعطاء، رغم كل ما يتعرض له من سلب للحقوق والأرض والحياة.

صورة المقاومة
المهمة الأخرى لوسائل الإعلام، ولا سيما وسائل الإعلام المحسوبة على محور المقاومة بفكرها وانحيازها لقضايا الشعوب، تتمثل في منع تشويه صورة المقاومين الفلسطينيين كما تحاول "إسرائيل" وبعض الدول فعله من خلال لصق تهمة الإرهاب بهم أو تشبيههم بالتنظيمات التكفيرية كـ"القاعدة" و"داعش" وغيرهما.

وهناك العديد من الأفكار التي يمكن لوسائل الإعلام العمل عليها لإنصاف هؤلاء المقاومين وبطولاتهم وتكريس حقوقهم المشروعة في مقاومة الاحتلال واستعادة حقوق شعبهم، ومن تلك الأفكار ما يلي:

- التركيز على الجوانب الإنسانية في حياة المقاومين وعملياتهم كما تبيّن خلال عمليات تبادل الأسرى مؤخراً وما صرح به بعض الأسرى الإسرائيليين عن المعاملة الطيبة والحسنة التي وجدوها أثناء احتجازهم.

ومع أنه من الصعب مقابلة هؤلاء الأسرى بفعل الرقابة العسكرية الإسرائيلية، فإنه يمكن تقديم تفاصيل ذات بعد إنساني عن عملية الأسر كالخدمات التي قدمت للأسرى من علاج وطعام، وإبعادهم عن مكامن خطر القصف الجوي الإسرائيلي الأعمى.

- استحضار الحياة الشخصية لبعض المقاومين الذين يأملون بحياة بسيطة ككل البشر لا ينغصها قصف، ولا ذل حواجز، ولا تجريف أراض، ولا استباحة مقدسات وحقوق وغير ذلك من ممارسات المحتل. وهؤلاء ليسوا مختلفين عن جميع المقاومين الآخرين الذين حملوا السلاح للدفاع عن بلدانهم وأهلهم عبر مر التاريخ في قارات العالم أجمع.

- الإشارة الدائمة إلى حقيقة أن المقاومين الفلسطينيين لا ينتمون إلى حركة "حماس" فقط، وإنما هم يمثلون جميع فئات الشعب الفلسطيني بشرائحه وأطيافه المختلفة، الأمر الذي يدحض الفكرة الصهيونية والغربية التي تسعى دوماً لربط الفعل المقاوم للاحتلال الإسرائيلي بالدين الإسلامي مستفيدة من حالة "الفوبيا" التي تنشرها الحكومات الغربية حيال الإسلام. ففي فصائل المقاومة هناك المسلم والمسيحي، الغني والفقير، العلماني والمتدين، الشيوعي والرأسمالي.. وغير ذلك.

- العودة دوماً إلى التاريخ القريب والبعيد لتذكير العالم بأن الإرهاب نشأ ووجد مع الحركة الصهيونية، وما ارتكبته من مجازر وجرائم جماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل إلا من حقه وأرضه، فالمقاومة لم تنشأ من فراغ، وعملياتها ليست سوى مواجهة لاحقة لعدوان واعتداء طويل وممتد عبر عقود من الزمن.

مسؤولية عربية وإسلامية
العديد من وسائل الإعلام العربية قبل غيرها ستكون أمام امتحان يؤكد مدى ارتباطها المهني والإنساني والأخلاقي بالقضية الفلسطينية، وإلا فإنها كغيرها من الوسائل العالمية التي تتعامل مع القضية من باب الحدث المتمثل في العدوان الإسرائيلي فقط، والذي كان من الطبيعي أن يفرض نفسه من حيث مساحة التغطية، وتصدره لنشرات الأخبار للمحافظة على نسب المشاهدة أو تحسينها.

وكي لا نحمّل المسؤولية لوسائل الإعلام وحدها، فإن جزءاً رئيسياً من تلك المسؤولية يقع على عاتق المؤسسات الإعلامية العربية والإسلامية، كمجلس وزراء الإعلام العرب واتحاد الإذاعات العربية واتحاد الإذاعات في الدول الإسلامية وغيرها، المعنية بوضع برامج وخطط تضمن استمرار حضور الوضع في الأراضي العربية المحتلة في صدارة الاهتمام الإعلامي، وتالياً اهتمام الرأي العام العربي والعالمي، وهذا أضعف الإيمان.