"مشغول بقلوب يا تراب الجنوب".. كيف تطورت الأغنية الثورية اللبنانية؟
الاشراق|متابعة
احتلت الأغاني التي تتحدث عن قتال الجنوب اللبناني لــ"إسرائيل" مكانة في الوجدانين اللبناني والعربي. كيف بدأت هذه الأغاني؟ وأين أصبحت بعد تحرير الجنوب والأمل بتحرير كل فلسطين؟
كلمة "الجنوب" لم تعد تعني جهة جغرافية في وعي الشعب العربي عموماً، واللبناني خصوصاً، بل تعدتها إلى الدلالة على جهة من القلب والروح والعاطفة، لارتباط هذه الكلمة بمقاومة تعتبر من أشرف وأقوى المقاومات في التاريخ العربي. لذا ليس من المستغرب أن تقتحم هذه المفردة مكان الصدارة في نصوص الأدب والفن اللبناني الحديث.
ولدت الأغنية المقاومة من رحم الأغنية الوطنية العامة التي تعتبر الحامل من الحوامل الثقافية والجمالية للقضايا الوطنية، والقضايا القومية العربية أيضاً، خصوصاً القضية الفلسطينية. حيث قدم الأخوان رحباني وفيروز أثمن وأجمل الأعمال الفنية المتعلقة بتلك القضية مثل: يافا، بيسان، سنرجع يوماً، جسر العودة، أجراس العودة، شوارع القدس، وزهرة المدائن وغيرها.
ومع احتلال أول شبر من أراضي الجنوب اللبناني، بدأت ردة الفعل الطبيعية تجاه الاحتلال، وأصبح التركيز على القضية الوطنية المستجدة أكثر منه على القضايا القومية، فانطلقت الأغنية الوطنية المقاومة.
ومع تطور الأساليب التكتيكية والاستراتيجية للمقاومة الميدانية العسكرية، طورت أغنية المقاومة أساليبها وتقنياتها بنفس المقدار من حيث الكلمة واللحن وشكل التقديم. وتجلى هذا التطور في منحيين: الأول في تطوير الموضوعات والأنماط الموسيقية الوطنية عموماً بالشكل والمضمون الإيديولوجي والإنساني الرومانسي. أما الثاني فتجلى في تطوير أغانٍ وأناشيد تتضمن جرعة أكبر من الخصوصية والحماسة وإلهاب المشاعر، وأكثر قرباً من مجريات العمل الميداني.
وقد تقاسم هذين النمطين ساحة الأغنية الوطنية اللبنانية زمانياً ومكانياً. حتى أن بعض الفنانين قدم النوعين في إنتاجه، كجوليا بطرس التي طرحت أغنية "أطلق نيرانك لا ترحم" إلى جانب "منرفض نحنا نموت"، وقدم مارسيل خليفة "عصفور طل من الشباك" بعذوبة ورقة صوت أميمة خليل، إلى جانب "هو ذا الصوت من الأرض السمراء آتٍ".
الأغنية الوطنية الرومانسية
بدأت كلمة الجنوب بالظهور في الفن والأدب اللبناني بعد النكسة مباشرة. إذ قام الفنان الراحل وديع الصافي بتلحين وغناء "الله معك يا بيت صامد بالجنوب" من كلمات الشاعر أسعد سابا.
ومع توسع العدوان على الأراضي اللبنانية ازداد الاهتمام الفني بقضية الجنوب، فظهرت مجموعة كبيرة من الأغاني المتعلقة بالجنوب لفيروز، وزياد الرحباني، وأحمد قعبور، وخالد الهبر و غيرهم. غير أن الحصة الأكبر من تلك الأغاني كانت للفنانة جوليا بطرس. إذ ولجت هذا المجال بأغنيتها الشهيرة "منرفض نحنا نموت"، التي كانت بحق عنواناً لتلك المرحلة بالتوازي مع الأغنية الشهيرة للسيدة فيروز "إسوارة العروس".
وتميزت تلك الأغاني بأنها اتخذت قوالب جديدة إلى جانب القوالب التقليدية كالطقطوقة. ولكنها اشتركت مع القوالب التقليدية باستخدامها لمقامات وإيقاعات عربية تقليدية عكست الهوية اللبنانية العربية. فأغنية "أسوارة العروس" على سبيل المثال، قدمت قالباً مبتكراً تتالى فيه مقطعين مختلفين من حيث المقام والإيقاع، وغناء المذهب في البداية والنهاية فقط، حيث كان الختام مهيباً مدعوماً بصوت الكورال الرجالي المحفز.
وحرصت هذه الأغنية كبقية الأغاني الوطنية، على جمع عاطفتي الحزن والأمل من خلال النقلات بين مقام الصبا الحزين في المطلع، ثم التحول إلى مقام العجم بفرح هادئ. ليأتي المقطع الأول بنغمة الحجاز (اللي حامل عكتافه) ويمزج بين الحجاز الحزين والراست المتفائل. ثم المقطع الثاني على نغمة البيات الحماسية (لما بغني إسمك).
وكذلك الأمر في الأغنية التي لحنها وديع الصافي "الله معك"، فقد تنوعت مقاطع الأغنية بين نغمة الكرد والحجاز ثم عودة للكرد مع وضع جسر (bridge) في وسط الأغنية على شكل بيت عتابا كما جرت عادته، مع الحرص على استخدام آلات شعبية تخص البيئة المحلية كالزمر والبزق.
الأغنية المقاومة الحماسية
أما الأغنية المقاومة الحماسية فولدت بسبب حاجة التنظيمات المقاومة وعلى رأسها حزب الله إلى تحشيد معنوي وإعلامي وإلهاب مشاعر جماهير المقاومة. فبالإضافة إلى دورها في رفع معنويات البيئة الحاضنة للمقاومة، تجاوزت ذلك لتصبح نوعاً شديد الفعالية في الحرب النفسية ضد العدو، الذي صار يتابع الإعلام المقاوم أكثر من متابعته لإعلامه الخاص. وترافقت تلك الأناشيد غالباً مع فيديوهات العمليات العسكرية، ما أدى إلى مضاعفة أثرها على العدو والصديق.
وتميزت الأناشيد التي أنتجتها التنظيمات المقاومة شكلاً، بالاعتماد في معظمها على الأصوات الجماعية الرجالية بشكل أساسي، والإيقاعات القوية مع الحرص على توضيح الضغط القوي في بعض الكلمات والجمل، واستخدام الآلات الموسيقية ذات الأصوات الضخمة مثل النحاسيات و الأبواق بأنواعها، واستخدام الوتريات بأساليب توحي بالقوة.
أما من حيث المضمون فقد اهتمت بتضمين النصوص كلمات من قبيل: الحق، الجنوب، الكرامة، الشهادة، النصر، توريث القضية للأجيال القادمة وكل ما يوضح التمسك بالهوية، خصوصاً بعد التحرير عام 2000. كل ذلك في مقابل ذكر عدو ذليل، جبان، معتدي، زائل.
أما الأغاني الحماسية التي أنتجها بقية الفنانين، فقد كانت رديفاً قوياً للنوع السابق، وساعد في رفع راية المقاومة عالياً على مستوى الوطن العربي. من أشهر هؤلاء الفنانين كانت جوليا بطرس التي قدمت طيفاً واسعاً ومتنوعاً من الأغاني الوطنية، وكانت السباقة في مقاربة لطيفة وصادقة من شخص سيد المقاومة (السيد حسن نصر الله). إذ أن أغنيتها الشهيرة "أحبائي" تعتبر من أجمل التظهيرات الفنية لقيم الوطنية والمقاومة والحق والأخلاق الإنسانية التي تضمنتها رسالته إلى المقاومين في حرب تموز 2006.