قراءة في كتاب.."الأساطير البيضاء للإمبريالية الليبرالية"

الاشراق | متابعة.

 امتدت الإمبراطورية البريطانية في القرن الـ20، عبر ربع مساحة الأرض في العالم، وبلغ عدد سكانها ما يقرب من 700 مليون نسمة وأطلق عليها أكبر إمبراطورية في تاريخ البشرية.

وبالنسبة للعديد من البريطانيين، جسّد تاريخ الإمبراطورية ذروة الصعود الحضاري لأمتهم، ولكن ما هو الإرث الذي قدمته الجزيرة البريطانية للعالم؟

تتعقب المؤلفة الأميركية كارولين إلكينز -أستاذة التاريخ بجامعة هارفارد- أكثر من 200 عام من التاريخ، ويكشف كتابها "ميراث العنف: تاريخ الإمبراطورية البريطانية" (مارس/آذار 2022) عن عقيدة عنصرية إمبريالية تتبنى استخداما مفرطا ومستمرا للعنف لتأمين مصالح الإمبراطورية.

وتوضح المؤرخة، الحائزة على جائزة بوليتزر 2006، كيف ترسخت الأسس الأيديولوجية للعنف في العصر الفيكتوري (منذ تولي الملكة فيكتوريا 1837 حتى مطلع القرن الـ20)، وتدرس سياسات معاقبة "السكان الأصليين" المتمردين، وكيف أصبحت أشكال العنف ممنهجة أكثر بمرور الوقت، وتخلص إلى أنه عندما لم تعد بريطانيا قادرة على السيطرة على العنف الذي أثارته وسنته، تراجعت الإمبراطورية.

وبالاعتماد على أكثر من عقد من البحث في 4 قارات، يناقش "ميراث العنف" جوانب سياسات العنف الإمبراطوري والتستر عليها، من خلال إظهار كيف ولماذا كان العنف هو العامل الأكثر بروزا في تكوين الإمبراطورية البريطانية في الخارج، والهوية الوطنية في الداخل، وتقلب إلكينز الأساطير حول عنف المستعمَرين رأسا على عقب، وتلقي ضوءا جديدا على دور الإمبراطورية في تشكيل العالم اليوم.

وتناقش في كتابها (قرابة 700 صفحة) كيف أن استخدام العنف كان محوريا في انتشار الإمبراطورية البريطانية حتى عندما صورت نفسها -لخدمة مصالحها الذاتية- على أنها قوة خيرية، فبينما تم الترويج للبريطانيين فكرة أن الإمبراطورية ذات مهمة حضارية، تم تصوير أولئك الخاضعين لها على أنهم أقل من بشر.

الأساطير البيضاء للإمبريالية الليبرالية
تتناول المؤلفة نماذج عديدة للسياسات الوحشية الاستعمارية البريطانية بما في ذلك جهود بريطانيا العنيفة المتزايدة لتوحيد إمبراطوريتها بعد الحرب العالمية الأولى وحرب البوير (بجنوب أفريقيا)، وحرب الاستقلال الأيرلندية، والانتفاضات في الهند والعراق وفلسطين، فضلا عن الحكم البريطاني في قبرص والملايو (ماليزيا وإندونيسيا) وكينيا.

وتناقش تجارب قمع نضالات الاستقلال تحت ستار "الإمبريالية الليبرالية" ودعايتها بأن البريطانيين جلبوا الحضارة والقانون إلى مستعمراتهم، ويكشف الكتاب أن نفس المجموعات من الجنود والإداريين، ذوي الخبرة في قمع "السكان الأصليين"، انتقلت من بلد إلى آخر مثل انتقال وحدة "بلاك أند تانس" (Black and Tans) من أيرلندا إلى فلسطين لقمع الانتفاضة العربية ضد الانتداب البريطاني في فلسطين في الثلاثينيات من القرن الماضي.


ويتناول الكتاب كذلك سياسات التعليق للحريات المدنية (قوانين الطوارئ)، والحرمان الاقتصادي في كثير من الأحيان؛ ما يؤدي لتفاقم المجاعات، والترحيل القسري، وتشجيع الانقسام العرقي والطائفي، والتعذيب، والاستعانة بفرق القتل، وكذلك استخدام الدعاية الأيديولوجية لشيطنة "المقاتلين المناهضين للإمبريالية"، والسيطرة على المعلومات داخل وخارج منطقة الحرب، وفي ذات الوقت الاهتمام الإمبراطوري بالعلاقات العامة وبناء صورة الضحية العاطفية. ويناقش الكتاب كيف أن كثيرا من هذه السياسات كانت فاشلة وغير مجدية في حماية التوسع الإمبراطوري.

أسرار استعمار كينيا
في التسعينيات من القرن الماضي، بدأت كارولين إلكينز في كتابة أطروحتها حول دراسة السنوات الأخيرة من الحكم الاستعماري البريطاني لكينيا، لكنها اكتشفت بعد ذلك أن المسؤولين البريطانيين قد أنشؤوا شبكة واسعة من معسكرات الاعتقال السرية التي تضم ما يصل إلى مليون ونصف المليون شخص بينهم أبناء شعب/قبيلة كيكويو في كينيا.

وفي تلك المعسكرات، مارس المسؤولون العنف الجنسي وأشكال تعذيب سادية لا يمكن تصورها على رجال ونساء قبيلة كانت أكبر مجموعة عرقية في البلاد. وروت المؤلفة اكتشافاتها في كتابها الأول "الحساب الإمبراطوري: القصة غير المروية للغولاغ البريطاني في كينيا" والذي فازت عنه بجائزة "بوليتزر".

ونشرت المؤلفة -وهي المديرة المؤسسة لمركز هارفارد للدراسات الأفريقية- خلاصات بحثها عن قمع بريطانيا لانتفاضة "ماو ماو" الكينية في خمسينيات القرن الماضي في كتابها السابق الذي استُخدم في قضية أمام المحاكم البريطانية أسفرت عن تعويضات لأكثر من 3 آلاف من الناجين الكينيين، وأكد الكتاب أن أكثر من 300 ألف كيني من الكيكويو كانوا محتجزين في معسكرات الاعتقال البريطانية، ما أسفر عن عشرات أو مئات الآلاف من الضحايا نتيجة السخرة والجوع والتعذيب.

وأثار الكتاب السابق جدلا هائلا في بريطانيا، وانتقده مثقفون بريطانيون باعتباره مبالغات "جيل من المؤرخين المتشبثين بالأفكار القديمة عن الإمبراطورية البريطانية المستنيرة"، ومع ذلك، تم إثبات ما ورد في الكتاب بشكل كبير عندما تم الكشف -عشية محاكمةٍ جرت عام 2011- عن مخبأ غير معروف يضم 240 ألف ملف استعماري سري للغاية، حيث جُلبت هذه الملفات من نيروبي في وقت استقلال كينيا في عام 1963، وفق صحيفة "الغارديان" (The Guardian) البريطانية.

وقد تم تخزين الملفات في مستودع شديد الحراسة لوزارة الخارجية البريطانية بالقرب من نورثامبتون (97 كيلومترا شمال غرب لندن)، واحتفظ مخزن المستندات السري أيضا بسجلات "مفقودة" تتمثل في 8 آلاف ملف من 37 مستعمرة سابقة أخرى، وعلقت المؤلفة على الاكتشاف الذي برأ ساحتها، وقالت "بعد كل هذه السنوات.. كانوا يجلسون فوق الأدلة، هل تمزحون معي؟ هذا كاد أن يدمر حياتي المهنية".

وبعد أكثر من عقد من الزمان على المحاكمة التي استندت جزئيا على ملفات المخبأ، تجادل إلكينز بأن الأساليب السادية التي ميزت آخر نشاطات الإمبراطورية في كينيا لم تكن انحرافا شاذا، ولكنها سلوكيات معتادة للقوة الإمبريالية، يتضمن تفصيلها لهذا الواقع تفكيكا ليس فقط لخداع الذات والأساطير الرائجة عن أكبر إمبراطورية في تاريخ البشرية، ولكن أيضا شمل مناقشة التدمير الرسمي المتعمد لأجزاء كبيرة من سجلها التاريخي.

القصة الكبرى
وعرفت إلكينز أن أبحاثها حول التمرد الكيني "كان جزءا من قصة أكبر بكثير"، قصة عن استخدام إنجلترا الأوسع نطاقا لـ"الفوضى القانونية" لتبرير القمع العنيف للسكان المستعمَرين عبر إمبراطوريتها الشاسعة، ثم تدمير الأدلة أو طمسها.

وتستخدم إلكينز مفهوم "الفوضى القانونية" لدراسة ظاهرة العنف الاستثنائي الذي تديره الدولة خاصة زمن إعلان الأحكام العرفية، وتكشف كيف أن اللوائح تسمح للسلطة العسكرية والشرطة بتجريد السكان الخاضعين لها من جميع أشكال الحماية القانونية، وتستخدم كذلك مصطلح "الخروج المقنن على القانون" لوصف أساليب بريطانيا لخدمة الغايات الإمبراطورية، ويناقش الكتاب كيف ترسخ هذا "النفاق" والخرق لمبادئ الليبرالية عبر اعتبار المجتمعات المستعمرة "متخلفة" ينبغي تنويرها وتحضيرها.

ويفتح الكتاب أبوابا للتساؤل في موضوعات عديدة مثل اعتبار أن ثورة أيرلندا ضد بريطانيا كانت على نموذج الثورة الهندية ضد المستعمر، وكيف كانت محاربة الشيوعية جزءا من الدعاية الاستعمارية البريطانية في القرن الـ20، وكيف أعجب هتلر بأفكار الإمبراطورية التوسعية واقتبس النازيون بعض أساليبها.

"الإمبريالية الليبرالية"
وفي عرضها للكتاب قالت مجلة "فورين أفيرز" (Foreign Affairs) الأميركية إن الكتاب يرقى إلى أكثر من مجرد فهرس للفظائع الإمبريالية التي ارتكبت باسم "الليبرالية"، فبينما ساعدت سياسات القهر العنيف على توحيد المستعمرات المتباينة سياسيا وثقافيا؛ أَقرت الأحكام العرفية وغيرها من تدابير الطوارئ عنفَ الدولة باعتباره ضروريا وصادقت عليه.

ويلاحظ في الكتاب أن أيرلندا صُنفت جزءا لا يتجزأ من الإمبراطورية، فبينما كانت جزءا من المملكة المتحدة، اعتُبرت عندما "يتعلق الأمر بمسألة سيادة القانون والحريات المدنية" بمثابة ساحة اختبار للأساليب الجديدة للعنف الإمبراطوري ومكانا لتطبيق التقنيات الوحشية التي تم تطويرها في أماكن أخرى.

كما نقلت الممارسات القاسية المستخدمة للسيطرة على البقع الساخنة في الإمبراطورية إلى أرض الوطن الإنجليزي، حيث تم جلب صلاحيات الطوارئ في زمن الحرب -المطبقة في الإمبراطورية- إلى المملكة المتحدة لقمع المعارضة، كما هو الحال عندما صدر قانونٌ عام 1939 يسمح بالاحتجاز من دون محاكمة للمواطنين البريطانيين المتهمين بتشكيل تهديد للأمن القومي.

وترى المؤلفة أن الليبرالية لم تقدم إسهاما فعالا لضبط جماح السلطة، وبحلول الوقت الذي وصلت فيه الإمبريالية الليبرالية إلى حالة "النضج" في فلسطين -كما كتبت المؤلفة- كانت الدولة الإمبريالية في الواقع بمثابة "ورقة تين لسيادة القانون"، لكن الإمبراطورية انهارت في النهاية عندما "لم يستطع المركز القمعي الصمود".

وتتعرض المؤلفة لما يسمى "عبء الرجل الأبيض" معتبرة أن بريطانيا صورت مهمتها الاستعمارية بدعوى أخلاقية وحضارية هي "نشر الليبرالية" وجلب الديمقراطية وسيادة القانون والسوق الحرة والحكم الرشيد والحماية المتساوية بموجب القانون البريطاني، لكن سياسات العنف الممنهج في هياكل وأنظمة الحكم، كشفت عن الجانب المظلم للإمبراطورية ومستوى غير عادي من العنف لا يمكن تبريره أخلاقيا. وتؤكد المؤلفة أن أكاديميين وعلماء كثر كانوا "متواطئين في المشروع الاستعماري" مدفوعين بصعود "العنصرية العلمية" التي ترى الأفارقة -وحتى الأيرلنديين- من سلالات بشرية أدنى.