المُعطيات المُحيطة بالعدوان التركي على سوريا.

الاشراق | متابعة.

ترتبط بالإيديولوجيا الطورانية اعتبارات تركية أخرى، من بينها استحقاقات الانتخابات المقبلة بعد خسارة البلديات الكُبرى، ومصالح برجوازية الأناضول التي تسيطر على الاقتصاد التركي، وتُعدُّ المطبخ الحقيقي لإردوغان وحزبه.


أياً كانت خلفيّة رجب طيب إردوغان في عدوانه على سوريا، وحملة التضليل التي ساقها لتبرير ذلك، ودعمه المُرتَزقة والخَوَنة والتكفيريين، وحديثه عن مواجهة الإرهاب، وهو أكبر حاضِنة لهم، وذَرْف الدموع على فلسطين، وهو يحتضن أكبر سفارة للعدو الصهيوني، وأكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط، فللعدوان التركي خلفيّة أخرى.

تنتمي تركيا إلى البلدان التي لا تتحدَّد سياستها الخارجية انطلاقاً من سياسة هذا الحزب أو الزعيم أو ذاك، بل من منظومة حسابات ومُعطيات أبعد من اللحظات السياسية والاستجابات التكتيكية، ويستوي في ذلك اليمين الإسلاموي واليمين العِلماني.

وقد أظهرت عقود القرن الـ20 والعقدان الأولان من القرن الحالي، أنَّ السياسات التركية المذكورة كانت شديدة الصِلة بالإمبرياليات السائِدة والاستراتيجية الصهيونية، فهي تكثيف لمُثلَّث استراتيجي أضلاعه الطورانية وحلف الأطلسي والصهيونية.

أولاً، الطورانية، والمقصود هو الإيديولوجيا العنصرية التوسّعية التي تُذكِّرنا بالإيديولوجيا الصهيونية، وتعود إلى العقود الأخيرة من القرن الـ19، وتداعيات الحرب العالمية الأولى، ومحاولات أتاتورك، وقبله حزب الاتحاد والترقّي، فقد ظلَّت الأوهام العُثمانية القديمة حاضِرة لديهم، على الرغم من هزيمة تركيا في الحرب التي أدَّت إلى اتفاقية "سيفر" قبل تعديلها في لوزان، بعد الدعم الروسي لأتاتورك في أيام لينين.

ظلَّت سوريا مُستَهْدَفة طِوال الوقت بدعمٍ فرنسي، ثم أميركي، للأتراك، من اقتطاع مرعش وديار بكر بعد معركة ميسلون، إلى اقتطاع الإسكندرون بعد الحرب العالمية الثانية، إلى محاولة عدنان مندريس في الخمسينات حتى يومنا هذا، بل إنَّ إردوغان، وتحضيراً لإلغاء اتفاقية لوزان 1923 وقيودها، بحسب المنطق التركيّ، يسعى إلى إعادة احتلال شمال سوريا وشمال العراق، والعودة إلى حدود الاحتلال العُثماني القديم.

 كما ترتبط بالإيديولوجيا الطورانية اعتبارات تركية أخرى، من بينها استحقاقات الانتخابات المقبلة بعد خسارة البلديات الكُبرى، ومصالح برجوازية الأناضول التي تسيطر على الاقتصاد التركي، وتُعدُّ المطبخ الحقيقي لإردوغان وحزبه.

فبعد أن فشلت هذه البرجوازية في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، اخترعت الإسلام السياسيّ كغطاءِ للضَحك على شعوب الشرق الإسلامي، بدءاً من حكومات عدنان مندريس، إلى أوزال، إلى إردوغان وحزبه (في الحقيقة، الطورانية عنصريّة مُغلَّفة بالدين للمُغفّلين العرب). وتزداد أهميّة العامِل السابق مع ازدياد المُنافَسة من الاقتصاد الصيني والفييتنامي على أسواق مُتشابِهة.

يُشار هنا إلى أنَّ الطورانية نفسها مزعومة إلى حدٍ كبير، سواء في عناوينها أو جذورها، فأبطالها السياسيون منذ نهاية القرن التاسع عشر، مروراً بالثُلاثي "طلعت" و"أنور" و"جمال باشا"، وانتهاء بـ"أتاتورك"، ليسوا أتراكاً، بل تعود أصولهم جميعاً إلى منابِت شتَّى، تؤكِّد أنَّ الطورانية من جذورها إلى إردوغان هي صناعة قوَّة إقليمية، فهم من أصولٍ يهوديةٍ أو كرديةٍ أو غجريةٍ أو مجريةٍ أو ألبانية.

أما الجذور التاريخية لمُجْمَلِ العنصر التركي (السلجوقي ثم العُثماني)، فهي لا تقلّ تزويراً عن تزوير التاريخ اليهودي، فالأتراك في أصولهم قبائل بدوية رَعوية لم تعرف تركيا أبداً قبل القرن الثاني عشر، ويشبهون اليهود في ظروف استيطانهم الكولونيالي بتوظيفٍ من قوَّةٍ خارجيةٍ استدعتهم لأغراضٍ عسكريةٍ، فإذا كانت الدولة العباسية قد استدعت الموجة التركية البدوية المُقاتِلة الأولى، وهي الموجة السلجوقية، لمواجهة البويهيين الشيعة، فإن ملك بيزنطة الأرثوذكسي استدعى الموجة العُثمانية (عُثمان بن أرطغرل من قبيلة القايي) لمواجهة فُرسان الصليب المُقدَّس الكاثوليك بعد السقوط الأول لبيزنطة (القسطنطينية) على يد هؤلاء الفُرسان، وتحريرها على يد المسلمين وإعادة الأرثوذكس.

ومن مُفارَقات التاريخ أنَّ السقوط الثاني للقسطنطينية الأرثوذكسية جاء على يد الأتراك أنفسهم وتحويلها إلى إسطنبول بدعم الكاثوليك من تجَّار جنوى والبندقية.

ثانياً، البُعد الأطلسي للدور التركي في مواجهة روسيا الأوراسية واقترابها من المياه الدافِئة عبر سوريا، فالانبعاث العُثماني الأول عبر مندريس المُتأَسْلِم، ثم عبر إردوغان، هو انبعاث أميركي، كما صاغه اليهودي برنار لويس وبريجنسكي لتطويق الاتحاد السوفياتي، ثم الصّحوة الأوراسية.

ثالثاً، البُعد الصهيوني كشريكٍ أساسيّ في الأطلسي الجنوبي، وفي سيناريو الشرق الأوسط الكبير (تمزيق البُلدان العربية، وخصوصاً سوريا والعراق)، وتقاسمها بين كونفدرالية ولايات عُثمانية وكونفدرالية كانتونات إسرائيلية.

يُشار هنا إلى أن الطورانية التركية تشمل غالبيّة يهود "إسرائيل" الذين يتحدَّرون من قبيلة الخزر التركية.

الآفاق

 إنَّ التمعّن في مجْمَل المُعطيات المُحيطة بالعدوان التركي يدلّ على أنه عدوان خاسِر بأهدافه القريبة والبعيدة، وسيدفع إردوغان ثمنه،عاجلاً أو آجلاً، في ضوء الاعتبارات التالية:

أولاً، سوريا الدولة المقاوِمة، وكذلك حلب، فإذا كانت تجارب الجيش العربي السوري والمقاومة الرديفة طيلة سنوات العدوان الإمبريالي، الرجعي، التكفيري، الصهيوني، والعُثماني عليها، قد أنتجت قوَّة مُجرَّبة وقيادة صُلبة، فثمّة عنصر مهم آخر قد يغيب عن الذِهن، هو مركز المقاومة الشمالية حلب.

وإضافةً إلى تقاليدها الوطنية، ثمّة "ثأر" خاصّ مع الأتراك الذين حرموها من الميناء التاريخي في الإسكندرون، كما أغرقوا الأسواق السورية بالبضائع المُنافِسة لصناعة حلب. ولا ننسى أيضاً أنَّ الأتراك قصفوها سابقاً بالمدافع في نهاية القرن التاسع عشر لتدمير مصانعها.

ثانياً، الموقف الروسي، وسيكون أصلب ممّا يتوقَّع كثيرون لأسبابٍ عديدة، على رأسها أنَّ إدلب معركة روسيّة بقَدْرِ ما هي معركة تحرير سوريا، فالجسم الأكبر من الإرهاب التكفيري هو جسم خلقته المخابرات الأميركية ودرَّبته لاستخدامه في ما بعد كجزءٍ من الطَوْق الأطلسي حول روسيا نفسها.

ومن الاعتبارات الأخرى لروسيا:

- تداعيات تجربة يوغسلافيا وتفكيكها وتداعيات التجربة الليبية، بعد أن برهنت الأحداث أنها سقطت جميعاً من خلال الإرهاب الأصولي في يد المخابرات الأميركية.

- تداعيات التجربة العراقية.

- سوريا حليف مهمّ لروسيا في ما يخصّ المياه الدافِئة والأمن البحري للأسطول الروسي.

- تداعيات حرب الغاز وخطوطه، وموقع ذلك بالنسبة إلى الغاز الروسي.

إلى ذلك، فإن للموقف الروسي تأثيرات حاسِمة في تركيا، إذا ما طغت عليها العنصرية الطورانية، وتجاهَلت حقائق التاريخ والجغرافيا، ومن ذلك:

- ارتهان الاقتصاد التركيّ لعناصر روسية ضاغِطة، بدءاً من السَيْلِ التركي أو الجنوبي لخطوط الغاز الروسية، وانتهاء بالقطاع السياحيّ، سواء من حيث النسبة (أكبر كتلة سيّاح من الروس) أو من حيث الاستثمار في هذا القطاع، وخصوصاً المناطق التي توصَف بـ"مدن الجنّة"، حيث تحتل الاستثمارات الروسية والإيرانية نسبة عالية جداً.

- القوَّة العسكرية الروسية والموقف المُجرَّب في نزاعٍ كهذا، فالإنذار الروسي في العام 1956 ساهم في وقف العدوان التركي على سوريا آنذاك.

- تذكر تركيا أنه بُعيد الحرب العالمية الأولى، ولولا الدعم الروسي الذي قدَّمته ثورة أكتوبر بقيادة لينين، وتضمَّن مُشارَكة عسكرية برية وبحرية، لانهارت تركيا وتكرَّست اتفاقية "سيفر" التي أعادتها إلى خارِطة صغيرة مُمزَّقة.

ثالثاً، إيران التي تشكِّل جزءاً أساسياً من معسكر المقاومة والمُمانَعة، وتتذكَّر أنّ تمدّد الغزو العُثماني في القرن السادس عشر للمنطقة، ارتبط بمعركتين بينهما وقت قصير، هما معركة مرج دابق التي احتل فيها العُثمانيون الشرق العربي كله، ومعركة كالديران التي أوقفت الصعود الإمبراطوري الإيراني.

رابعاً، تركيا الداخل، فالفُسيفساء التركية تنطوي على عناصر مُعوّقة بالنسبة إلى إردوغان، وقادِرة على مُفاقَمة أزمته، مثل الكورد (20 مليوناً) والكتلة العلوية (20 مليوناً أيضاً)، إضافةً إلى نفوذ منظمة الخدمة، بقيادة فتح الله غولن، ونسبة كبيرة من قوميات غير تركية فاعِلة في الوسط البرجوازي وغير معنية بالانبعاث الطوراني.

كما أنَّ حزب الشعب العِلماني، بقَدْرِ ما يشترك مع إردوغان في الأوهام الطورانية، فإنه ينتظر سقوطه. أيضاً، وفي ما يخصّ تركيا الداخل، فإن كلّ محاولات تجديد العَثْمَنة في القرن التاسع عشر، وكذلك محاولات الانبعاث العُثماني في القرن العشرين، هي محاولات فاشِلة، فبعد مدّ وجَزْر في حروب القرم والبلقان مع روسيا، خسر الأتراك هذه الحروب، كما خسروا الحرب العالمية الأولى، وانحسرت دولتهم عن مساحاتٍ شاسِعة، وفشلوا في إنتاج دور خارجيّ كجزءٍ من حروب الإمبريالية في الحرب الكورية، كما ضد سوريا أيام مندريس الذي أُعْدِمَ شنقاً.

وعلى الأغلب، إنَّ برجوازية الأناضول التي ابتدعت مع المخابرات الأميركية الانبعاث العُثماني للضّحك على مسلمي الشرق، وصنعت أحزاب هذا الانبعاث، من مندريس، إلى أوزال، إلى فتح الله غولن، وتخلَّصت منهم كلَّما أخفق أحدهم، ستبحث في ضوء نيران إدلب عن بديلٍ لإردوغان، إزاحةً أو قتْلاً، فتجمَّع البريكس الذي يضمّ روسيا والصين والهند وأسواقهم ومواردهم الضخمة، أهم بكثير من الحنين إلى القبيلة البدوية القادمة من آسيا بقيادة أرطغرل.