الشّرق وليس صندوق النّقد الدّوليّ.. هو الحلّ

الاشراق | متابعة.

في ظلِّ هذا التّجاذب العالميّ الطابع على مغريات لبنان، وُضع البلد أمام استحقاق، فإما الغرب والاستمرار في ما كان قبل انفجار الأزمة، وإما الدمار في حال مضي القوى المتقدمة في السلطة في سياستها بالتوجّه نحو الشرق.

لا شكّ في أنَّ الأزمة اللبنانية عميقة ومعقّدة ومتشعّبة، لكنَّ حدّتها ليست ناجمة عن الاتجاه الَّذي أُعطيَ لها كأزمة نظام وفساد وسرقة ونهب، وفق الشّعارات التي رُفعت في التحركات الاحتجاجية التي انطلقت في 17 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، فهي ليست إلا عناصر عادية وإفرازات منطقية لحالة الليبرالية الاقتصادية الَّتي زُجّ بها لبنان منذ اتفاق الطائف، والمعروفة المنشأ والولادة، ومحاولات تكريسها مجدداً في لبنان بالشروط الجديدة التي يفترض أن تفاقم أزمته وتعمّقها، لا أن تؤمن لها الحلول.

عندما تحدّثت السيدة ريا الحسن - وزيرة الداخلية اللبنانية السابقة - عن أبعاد الأزمة، كان يمكن وصف حديثها بـ"حديث الشّاهد من أهله"، بحسب انتمائها السياسي. الحسن قالت، كامرأة جمعت الشفافية النسوية والجرأة في آنٍ: "إنَّ حملة الضغط التي تقودها الولايات المتحدة تضرّ بلبنان"، مشيرةً بوضوح إلى مصدر الأزمة، وخصوصاً في حديثها عن "علامة استفهام حول الاستراتيجيّة الأميركيّة القائمة على تقويض القطاع المصرفي"، والهدف في نظرها هو "الضّغط على حزب الله".

ويمكن القول إنّ الحسن، في حديثها الَّذي نُشر في صحيفة "آسيا تايمز"، لخّصت الأزمة التي لم تعد خافيةً إلا على من غشى عينه بنفسه، وحصر الأزمة بالعوامل الداخليّة، اختصاراً وتركيزاً على أداء السّلطة.

وعندما تشير الحسن في أكثر من موضع في كلامها إلى دور الولايات المتحدة الأميركية في الأزمة، فهي تضع الإصبع في الجرح، وربما تتهم الولايات المتحدة الأميركية بها. وهنا تكمن الحقيقة، فالأزمة تفاقمت واندلعت في الشّارع في لحظة مفصليّة من تطورات الأوضاع في المنطقة، وانعكست على لبنان بانعكاسها على مكوّناته المتصلة بعناصر الصراع. 

في العام 2005، بين لحظة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، تحول البلد إلى مرتع للأميركي، وكانت حركة الرابع عشر من آذار برعاية غير مخفية من وزيرة الخارجية الأميركية غوندوليزا رايس، وظلَّ لبنان محكوماً بغلبة كبيرة من الرابع عشر من آذار، على الرغم مما تحقَّق من متغيرات إقليمية، وخصوصاً حرب 2006 وتغيير المعادلة مع العدو الصهيوني.

وظلَّ ميزان القوى الداخليّ مهتزاً لصالح الأميركيّ، عبر أعوانه، حتى بلوغ الانتخابات النيابية الأخيرة في العام 2018، فتعدَّلت موازين القوى، وبات لبنان واقعاً دستورياً وقانوناً تحت غلبةٍ، وليس سيطرة تامة، للقوى الَّتي فازت بأغلبية البرلمان، ونواتها تجمّع الثامن من آذار. 

تشكَّلت حكومة الرئيس سعد الحريري بعد الانتخابات في ظلِّ هذه الغلبة، ولم تصل الحالة إلى هيمنة شبيهة بهيمنة الرابع عشر من آذار في ذروتها في العام 2005، ولسنوات عديدة في ما بعد، بفعل زخم الدّعم الأميركيّ. 

جاءت حكومة الحريري الأخيرة بغلبةٍ للتحالف الذي شكَّل عماده التقاء "حزب الله" بالتيار العوني. وكانت الغلبة بنسبة 60-40 في المائة بصورة تقريبية وليست دقيقة، ما يعني أنّ هذه الغلبة يفترض أن تكون لسياسة القوى الأقوى، والمتمثلة بنسبة أعلى في البرلمان والحكومة، وفي السلطة ككلّ. 

من هنا، تطلّ مطالب القوى المتضررة من الانتخابات السابقة بانتخابات مبكرة، والجديد في عناصر الرهان على قلب موازين القوى في البرلمان من جديد هو الاستفادة من مناخات التجييش في التحركات الاحتجاجية، التي يدرك المطالبون بالانتخابات المبكرة دورهم فيها ودور تحالفاتهم الدولية الحاسم، لعلَّهم يحقّقون انقلاباً من خلال الحراك يعيد لهم مجد مرحلة ما بعد 2005 الزائل.

ولكنّ التركيبة الطائفية للبنان، وهي علَّته منذ نشأته، فرضت على عددٍ من الحكومات المتعاقبة منطق التوافقية، حفاظاً على المصالح والمشاعر الطائفية المتقدمة على النصّ الدستوري والقانوني عملياً، فلجمت النزعة التوافقية، الَّتي اعتمدت وجهة القوى الرابحة في الانتخابات من التقدّم في منهجيتها وخططها التي كان يفترض أن تكون متناسبة مع سياسة المحور المتوافقة معه، وهو المحور الشرقي، ونافذته سوريا. وأدى شعار النأي بالنفس الذي تبنّته قوى الرابع عشر من آذار وقوى متمحورة حولها، وبضغوط خارجيَّة، دور لجم توجّه القوى الرابحة في السلطة نحو تطبيق سياساتها بصورة مباشرة وعلنيّة.

وفي ممارستها وإدارتها لسياستها في السلطة، بلغت حركة القوى الرابحة (تحالف حزب الله والتيار العوني وصحبهما) مرحلة لم يعد فيها ذر الرماد في العيون أو المسايرة نافعين، ولم يعد الالتفاف قابلاً للحياة، بعد أن بلغت الحالة الإقليمية مرحلة متقدمة من المتغيرات، منها على سبيل المثال لا الحصر، اضطرار الأميركي إلى الخروج من العراق، وفشل إسقاط سوريا بالحرب الشعواء عليها، وبروز أدوار مهمّة، كالدورين الروسي والإيراني، على المستوى الاستراتيجي، والرغبة الصينية في التقدم اقتصادياً نحو غرب آسيا أو شرق المتوسط، بمشروع خطّ الحرير ومبادرة الحزام.

وفي أواسط تشرين الأول/أكتوبر 2019، بلغت الأمور نقطة حسّاسة. لم يكن الفساد والمديونيّة ومقولات تهريب الأموال جديدةً في لبنان منذ اتفاق الطائف، لكنَّ الوضع اللبناني بلغ مرحلة متقدّمة من التأزم، وكان ثمة حلول من الممكن أن تخفّف الأزمة، منها التوجّه شرقاً، حيث يمكن البحث في مروحة واسعة من الحلول، أقلّها تصدير المنتجات اللبنانية نحو الشرق، والتفاعل مع دول المحور الشرقي الراغبة في العمل في المنطقة والاستثمار فيها، ومنها لبنان. 

وكان التوجه شرقاً يعني إسقاط المحظور الذي كرَّسته هيمنة الرابع عشر من آذار شبه المطلقة لسنوات عديدة، بتكريس انفصال لبنان عن محيطه، وخصوصاً سوريا، وخلق حالة دستورية انفصالية بترسيم الحدود، وإقامة سفارات، ومنع التواصل مع سوريا، ما بات يعتبر محرماً ويمنع التفوّه به، وصار الحديث عنه عيباً في نظر شريحة عريضة من اللبنانيين والقوى السياسية المعروفة.

وفي هذه اللحظة من تطوّر الأمور؛ الصعود الشرقي وتقدمه نحو المشرق العربي وغرب آسيا من جهة، والتمسّك الغربي بوليده لبنان من جهة ثانية، يقع التجاذب المدمّر بين المحورين على موقع لبنان، بما يحتويه من مكامن قوة استراتيجية واقتصادية وجيوسياسية.

في ظلِّ هذا التّجاذب العالميّ الطابع على مغريات لبنان، وُضع البلد أمام استحقاق، فإما الغرب والاستمرار في ما كان قبل انفجار الأزمة، وإما الدمار في حال مضي القوى المتقدمة في السلطة في سياستها بالتوجّه نحو الشرق، وفق ما عبَّر عنه الأميركي قبيل اندلاع الأحداث الأخيرة: "إما رأس حزب الله وإما نعيد لبنان إلى العصر الحجري"، فكانت التحركات التي جرت في الشارع، وأكثر اتّجاهاتها قوةً، إعادة البلد إلى العصر الحجري، أي تدميره، والسلاح هو الدولار والأزمة المصرفية العاصفة بالبلد. بهذا المعنى، تحدثت الوزيرة الحسن عن الدور الأميركي في الأزمة اللبنانية.

لم يعد من السَّهل على لبنان، بما يملكه من مغريات وعناصر جذب استراتيجيّة على مختلف الصّعد، التوفيق بين القوى المتصارعة: شارع بإدارة التحالف الأميركي في الغالب منه، ومقاومة تقف في وجه السّياسات الغربيّة المدعّمة بالدول الوافدة الطامحة للإفادة من مغرياته.
يقع لبنان اليوم بين غرب مأزوم وشرق صاعد. وكان يُرتقب من حكومته الجديدة، الصّاعدة على أكتاف تحرك الشارع الضبابي الهُوية، التوجّه شرقاً، حيث مكامن زخم حركة متنامية على مختلف الصّعد واحتمالات حلول كثيرة. 

وفي ظلِّ توافر إمكانياتٍ يتمتع بها لبنان وشرق المتوسط بصورة عامة، لم يكن ينقص الحكومة الجديدة إلا انبعاث رائحة البترول من أرضه وشطآنه، للإفادة منه وتوظيفه في خطط خلاصه مما يتخبط به من أزمات متعاقبة، فإذا هي تعيد جرّ البلد نحو مصدر أزمته، أي الغرب الذي نهش العالم ومصّ دماءه كصيغة طبيعية لنظامه.

لعلَّ حكومتنا الجديدة توصل البلد بذلك بأسرع طريقة ممكنة إلى "العصر الحجري" الذي هدّد الأميركي به، فتنجز المهمة بأقصى سرعة ممكنة، عبر الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي، أهمّ سلاح تدميري في نظامه الليبرالي، وأحد المؤسسات المتسبّبة بغالبية الأزمات العالمية المتفاقمة.

أما إذا شاءت حكومتنا الحلّ، فما عليها إلا الاستدارة نحو الشرق، حيث المستقبل الجديد والواعد، ليس للبنان والمنطقة فحسب، بل للعالم كله، في المرحلة المقبلة.