استحضار اللغة في الرواية التاريخيّة للصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ

كتب كل من محمد أمارة ومرعي عبد الرحمن، في كتابهما "اللغة في الصراع": "لعِب الصراع اللغويّ دورًا مركزيًّا في الصراع الفلسطينيّ - الصهيونيّ، وقد برز هذا الصراع في الأساس في مسألة الرواية التاريخيّة للصراع، حيث تمّ استحضار اللغة في تأكيد كل طرف على حقِّه على الأرض وفي الأرض، وبدأ الصراع اللغويّ حول تسمية البلاد؛ فالحركة الصهيونيّة استحضرت اسمًا دينيًّا؛ أرض إسرائيل بدلًا من تسميةِ فلسطين، التي استخدمها الفلسطينيّون كما استخدَمَتْها حكومة الانتداب".

في سياق الحديث عن اسم فلسطين، يقول شموئيل كاتس، الذي كان عضوا في أوّل كنيست، وأحد مؤسِّسي حركة أرض إسرائيل الكاملة، ومستشار رئيس الحكومة مناحيم بيغن أواخر السبعينيَّات؛ إنّ "صلة الشعب اليهوديّ بأرض إسرائيل" فريدة من نوعها في تاريخ الشعوب، وقد فُرِض اسم فلسطين عليها من قِبَل القيصر أدريانوس، ثم تناول كاتس تاريخ البلاد حتى الاحتلال البريطانيّ عام 1918، زاعمًا أنّ أحدًا لم يُفلح طوال هذه القرون؛ في القضاء على الوجود اليهوديّ في "أرض إسرائيل"، على الرغم من حكم البلاد من قِبَل 14 جهة أجنبيّة، فقد كان التراث الحضاريّ اليهوديّ، هو الوحيد والأوحد الذي تميَّز به واقع "أرض إسرائيل"، ثم عزا وجودَ العرب في البلاد، إلى هجرة أبناء المناطق المجاورة في القرنيْن الماضيين.


جوهر الادّعاء بملكيّة الأرض

لقد تطرق كيث وايتلام، في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطينيّ" للكثير من الأعمال الكلاسيكيّة حول التّاريخ الجغرافيّ، والتي شكَّلت الأساس الذي اعتمدتْ عليه الدراسات التوراتيّة خلال القرن الماضي، والتي جرَّدتْ لفظ "فلسطين" من أيّ معنى كامنٍ فيه، ولم يعُد من الممكن فَهْمه، إلا إذا أُعيد تعريفه، من خلال لفظ دينيّ، أو لاهوتيّ آخر، كاللفظ المستعمَل للدلالة على "الأرض المقدَّسة"، أو "أرض إسرائيل".

يقول وايتلام، إنّ جوهرَ الادعاءاتِ بمُلكيّة الأرض، ومن ثم الحقّ في تسميتِها؛ قائمٌ على مفهوم القوميّة والدولة، وفي هذه المنطقة على وجه الخصوص، يتطابق الصراع المعاصِر حول فلسطين مع تصوير الدراسات التوراتيّة للماضي، فاختيار اللغة، وتسمية الأرض؛ هي جزء من تلاعُبِ القوّة الذي من خلاله تؤكَّد العلاقة مع الأرض أو يتم إنكارها.

وبهذا، فإن فلسطين ليس لها المعنى الحقيقيّ الخاصّ بها، أو أيَّة قيمة فعليّة خاصة بها، بل تتحوّل إلى حَلَبة لـ "التاريخ الحقيقيّ، والموثَّق لإسرائيل". وهذا جوهر الادّعاء بمُلكيّة الأرض، وبذلك بدأ الصراع على محو الرواية التاريخيّة، وإعادة تعريفها بمنظور توراتيّ.


أول عملة إسرائيلية
يُشير د. عبد الوهّاب المسيري، في كتابه "الصهيونيّة والعنف" إلى أنه إذا أصبحت فلسطين "الأرض المقدَّسة" أو "أرضَ إسرائيل"، تُصبح حقوق اليهود الخالدة ساريةَ المفعولِ فيها، فيُصبح بالإمكان الادّعاء بأنَّ فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، لأنها دخلتْ الدائرة الحلوليّة التي تستبعد الآخر. لقد كان الصهاينة يدركون أن الفلسطينيين يعيشون في فلسطين، وأن اليهود المشرّدين يعيشون في الأراضي التي وُلدوا فيها، ولكن الرابطة الأبديّة بين الأرض والشعب اليهوديّ هي التي تجعل اليهود مجرد مشرّدين وشعبًا رُحّلًا بلا جذور؛ رغم وجودهم في أوطانهم في كل أنحاء العالم. وهذه الرابطة هي التي تُنكر وجود الفلسطينيّين، وتجعلُ مطالبهم القوميّة مسألةً هامشيّة. ولهذا، فإن شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" لا بُدّ أن تتم إعادة صياغته على النحو الحلوليّ التالي: "أرض مقدَّسة بلا شعب مقدَّس لشعب مقدَّس بلا أرض مقدَّسة"، وفي هذه القداسة يذوب الفلسطينيون (شعب غير مقدَّس لا يتمتّع بالحلول الإلهيّة)، وتُصبح مطالبهم أمرًا هامشيًّا وتافهًا، وقد تَحقَّق كل ذلك، دون اللجوء إلى أية نظريَّات عِرْقيّة فاضحة.

الماضي ينتمي إلى التاريخ الفلسطينيّ
من هنا رفض أصحاب الدراسات التوراتيّة، استعمالَ اسم "فلسطين" على اعتبار أن كلمة "فلسطين" لم تُصبح متداوَلةً للدلالة على هذه المنطقة، إلا من خلال الانتداب البريطانيّ بعد عام 1918.

في هذا السياق، يقول العالم البريطانيّ كيث وايتلام، في دراسته "إعادة اكتشاف فلسطين": "تلك هي الفكرة التي أفضت إلى الوضع الذي تمخَّض عن فصل تاريخها بما أدى إلى جعل الماضي يبدو مفصولًا عن الحاضر ولا ينتمي إلى التاريخ الفلسطينيّ".

علاوة على ذلك، إنّ إنكار اسم "فلسطين"، هو إنكارٌ لاسمٍ ورد في المصادر التاريخيّة، وكان هو الاسم المستعمل للدلالة على المنطقة في الفترة الرومانيّة، واستُعمِل فيما بعد بشكل واسع في المصادر العربيّة من القرن العاشر حتى الآن.

مصطلح "أرض إسرائيل"
ثمّة حقيقة مهمة أخرى تكمُن في أنّ قرنًا من البحوث الأثريّة المكثَّفَة؛ لم يتمكن من تقديم البُرهان على أن أرض فلسطين أُطلِق عليها يومًا ما، مصطلح "أرض إسرائيل"، كحيِّز إقليميّ خاضع لسيطرةِ "الشعب اليهوديّ"، ولم يظهر مصطلح "أرض إسرائيل" بمفهومه العامّ في أسفار التناخ ( أكثر أسماء الكتاب المقدس العبري شيوعًا) أيضًا.

يُشير شلومو ساند، في مقدمة كتابه "اختراع أرض إسرائيل"، ليس فقط في التناخ بل في كل الفترة المُمتدّة حتى خراب الهيكل في العام سبعين الميلاديّ، لم تُعتَبر المنطقة كـ"أرض إسرائيل"، لا من حيث لغة سكانها، ولا في نظر جيرانها، وإن محاولة العثور على المصطلح في أسفار المكابيين أو باقي الأسفار الخارجيّة عبثيّة، إذ ستذهب سدى محاولةُ البحث عن الكلمة في المقالات الفلسفيّة التي كتبها فيلون الإسكندرانيّ أو في الكتابات التاريخيّة التي ألَّفَها يوسيفوس فلافيوس.

صمت هيرودوت
من الأمور الواجب أخذها بعين الاعتبار في هذا المقام، أنّ المؤرخ الإغريقيّ، هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وعُرف باسم أبو التاريخ، وألَّف كتاب "التاريخ"، حوالي سنة 440 ق.م، وترجمهُ إلى العربية، حبيب أفندي بسترس عن طبعة لارشي الفرنسيّ، تحت عنوان تاريخ هيرودوتس الشهير (1886 - 1887)، وعبد الإله الملاح، تحت عنوان "تاريخ هيرودوت"، الصادر عام (2001)؛ أطلقَ على المنطقة الممتدة من جنوبيّ مدينة دمشق إلى حدود صحراء سيناء، اسم "فلسطين"، ولا يأتي بأي ذكر لـ"إسرائيل"، كما يخلو كتابه من أي إشارة إلى الأحداث التوراتيّة. إن صمت هيرودوت يمنحنا الحق العلميّ في الاستنتاج بأنه لو سَمِع بذلك لسجَّلهُ، لأن هيرودوت، كتب مؤلَّفه اعتمادًا على ما رآه وما سمعه من أهل البلاد، أي أنه لم يختلق اسم "فلسطين"، وإنما نقل اسمًا كان مُستَخدَمًا في الإقليم نفسه خلال زيارته.