قصة قصف ’البغدادي’.. تناقض الادعاءات الاميركية مع الافعال
بقدر ما اثارت قصة القصف الجوي الاميركي الاخيرة على ناحية البغدادي، جنوب غرب محافظة الانبار، والتي تسببت بمقتل وجرح حوالي ثلاثين شخصا، ردود فعل غاضبة لدى محافل سياسية واوساط شعبية، فأنها في نفس الوقت ولّدت جملة تساؤلات واستفاهامات، تبدو ملحة، عن حقيقة التواجد العسكري الاميركي في العراق، وطبيعته ومدياته، والاطر والضوابط التي يتحرك ضمنها، وماهي اهمية الاتفاقية الامنية-الاستراتجية المبرمة بين بغداد وواشنطن، والتي على ضوئها انسحبت القوات الاميركية من العراق بصورة نهائية في الحادي والثلاثين من شهر كانون الاول-ديسمبر 2011.
وبعيدا عن الخوض في جزئيات وتفاصيل قصة القصف الجوي الاميركي في البغدادي، فأن توضيحا رسميا معتمدا لم يصدر من قبل واشنطن بخصوص ما حصل، وما قيل وتم الترويج له سياسيا واعلاميا من قبل دوائر القرار الاميركي، هو ان ما حصل كان خطأ غير مقصود، وان الوجود العسكري الاميركي في العراق، يأتي في اطار التحالف الدولي الذي انشأ قبل اكثر من ثلاثة اعوام لدعم العراق في حربه ضد تنظيم داعش الارهابي، وان واشنطن تحرص على الالتزام بالاتفاقية الامنية المبرمة مع بغداد.
قد لاتكون مثل تلك المبررات والمسوغات مقنعة بالقدر الكافي، اذا ما علمنا ان عبارة "الخطأ غير المقصود" رافقت عشرات الضربات الجوية الاميركية في مناطق مختلفة من العراق طيلة الاعوام الاربعة الماضية وقبلها، وراح ضحيتها اما عناصر من الجيش العراقي، او الحشد الشعبي، او اناس مدنيين ابرياء، ناهيك عن ان المدن والمناطق التي تبنى ما يسمى التحالف الدولي تحريرها من داعش، تعرضت الى دمار وخراب هائل تجاوزت نسبته في بعض الاحيان 80%.
والنقطة الاخرى في هذا الشأن، هي ان الولايات المتحدة الاميركية لم ترق لها نهاية تنظيم داعش في العراق دون ان يكون لها بصمة واضحة في ذلك، اضافة الى انها افصحت في مناسبات عديدة-وان كان بصورة غير رسمية-انها تريد اضعاف وتحجيم داعش وليس القضاء عليه نهائيا، ارتباطا بمصالحها واجنداتها الخاصة. في ذات الوقت، شعرت واشنطن بأنها في مأزق كبير جدا، وهي تقف عاجزة عن منع الحشد الشعبي-من لعب دور محوري ومؤثر في ميدان الصراع والمواجهة مع تنظيم داعش.
وكذلك فأنه اذا كانت الطائرة الاميركية التي قصفت وقتلت، تعمل تحت مظلة التحالف الدولي، فمن المفترض ان هناك غرف عمليات مشتركة وتنسيق بين قيادات التحالف الدولي والقيادات العسكرية العراقية، واذا كانت الطائرة تعمل وتتحرك في اطار المهام الاستشارية للقوات الاميركية وفق ما تنص عليه الاتفاقية الامنية-الاستراتيجية بين بغداد وواشنطن، فأن تلك الاتفاقية منعت أي تواجد عسكري اجنبي"اميركي" في العراق الا بموافقة الحكومة العراقية والتنسيق معها.
ولاشك ان واشنطن استغلت ظروف الحرب على تنظيم داعش، لتعود الى العراق من جديد، وقد نشر موقع "غلوبال ريسيرج" الاميركي مؤخرا احصائية عن عدد القواعد العسكرية الاميركية في عموم دول العالم، اكد فيها ان لدى واشنطن ثمانيمائة قاعدة عسكرية تتفاوت في حجومها ومساحاتها ومهامها، وان ست من تلك القواعد تتواجد في العراق.
ويتحدث وزير النقل العراقي السابق والقيادي في المجلس الاعلى الاسلامي العراقي باقر جبر الزبيدي عن واحدة من تلك القواعد العسكرية، وما يجري فيها، اذ يحذر من وجود اجندات اميركية لاعادة حزب البعث المنحل الى الساحة السياسية من بوابة الانتخابات، ويتهم ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب بترتيب ذلك، مشيرا الى ان هناك خفايا خطيرة يجري ترتيبها في قاعدة عين الاسد الجوية في الانبار.
ويشير الزبيدي الى ان ادارة الرئيس الاميركي الحالي، تتجه لاستبدال خطة ادارة الرئيس السابق باراك اوباما، بخطة بديلة تقوم على اعادة "البعثو سلفي" عبر الانتخابات المقبلة الى السلطة، وهو ما يؤكده وزير الصناعة في احدى فترات عهد نظام حزب البعث المنحل، طاهر توفيق العاني، الذي يقيم حاليا في العاصمة المصرية القاهرة، في حديث خاص مع صحفي عربي، بحسب ما ينقل الوزير السابق باقر الزبيدي.
وقد تكون الاحاديث والتحذيرات من وجود اجندات اميركية لادخال الانبار ومدن عراقية اخرى في داومة العف والارهاب من جديد، ليست ببعيدة عن الواقع، وتعززها ارقام وحقائق ومعطيات مهمة عن عراقيل اميركية تحول دون تطهير مناطق على الحدود العراقية-السورية من عصابات داعش، في ذات الوقت، الذي اطلقت بعض الاوساط السياسية والاعلامية الاميركية تسريبات عن نية واشنطن نشر قوات اميركية لحماية الحدود بين العراق وسوريا ومنع تسلل الارهابيين منها.
ولعل قيادة الحشد الشعبي التفتت الى ذلك الامر سريعا، لذا بادرت على لسان نائب رئيس هيئتها والقيادي الميداني البارز ابو مهدي المهندس الى التأكيد على استعداد قوات الحشد الشعبي الدخول لمسافات في الاراضي السورية لاجل حماية الحدود العراقية اذا قرر القائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي ذلك.
ويشير المهندس الى ان حدوث احتكاك أو اشتباك بين قوات الحشد والقوات الأميركية أمر وارد جدا وغير مستبعد، اذا ما جرى التعدي على سيادة العراق.
وفي اطار الحديث عن الارقام والمعطيات، فإن ظهور تنظيم مايسمى بـ"اصحاب الرايات البيضاء" وقيامه بعمليات ارهابية في مدينة طوزخورماتو، وتسرب معلومات عن وجود قوى سياسية كردية تقف ورائه، لايبتعد كثيرا عن الحديث عن الاجندات الاميركية التخريبية، اضف الى ذلك، ان الاشتباكات الاخيرة في مناطق تابعة لمدينة حلبجة بين عناصر من تنظيم "داعش" واجهزة الامن (الاسايش) الكردية، وعبور بعض تلك العناصر الى الاراضي الايرانية، يمكن ان يمثل مؤشرا اضافيا اخر على محاولات ومساعي ارباك الاوضاع وخلط الاوراق، لاسيما ونحن على اعتاب الانتخابات البرلمانية العامة، التي يبدو ان واشنطن كانت امام خيار عدم اجرائها، وحينما فشلت في ذلك، قررت اللجوء الى الخيار البديل، المتمثل بالتدخل فيها عبر لافتة الوكالة الاميركية للتنمية الدولية (USAID)، وفي حال لم ينجح هذا الخيار ايضا، فأنها من الطبيعي ان تفكر وتتجه الى خيار اخر ولن تكتفي بالمراقبة والتفرج، وهذا ما ينبغي التحسب له جيدا قبل فوات الاوان.