وعد بلفور: أكاذيب شنيعة ذات كلفة مصيرية باهظة

وصف نابليون بونابرت "التاريخ" بطريقة مقذعة إذ قال"إنه مجموعة من الأكاذيب المتفق عليها" مقابل وصف أقل شناعة باللغة العربية إذ يقال إنه "حمال أوجه" واليوم يصف مؤرخون من طراز مرموق أعمالهم بصيغة "هذه قراءتي" لهذا الحدث التاريخي أو ذاك.


يبدو”وعد بلفور” في مئويته الأولى أقرب إلى التصنيف البونابرتي للتاريخ. فقد صدر عن حكومة بريطانية منافقة، وصيغ بعبارات ثعلبية، ولولا التنافس الفرنسي ــ البريطاني من بعد، ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 1917 الروسية، التي كشفت خطط سايكس ــ بيكو لاقتسام “أملاك السلطنة العثمانية” لربما كان وعد بلفور في نظر المؤرخين الغربيين فعلا تأسيسياً في “تحديث” و”تحضير” و”تنمية” الشرق الأوسط عبر زرع الحركة الصهيونية في وسطه.

تستدعي المناسبة قراءة مختلفة لهذا الوعد القذر الذي تسبب في مآسينا خلال القرن المنصرم، ووصله بالأكاذيب التي تليق به ومن ثم تحريره، بالقدر الذي يتيحه هذا المقام المحدود، من الأضاليل التي بثها المشرفون على تنفيذه.

الدخول من هذا الباب إلى عبارة تنسب إلى السير “مارك سايكس” العقل المدبر لاتفاقية “سايكس بيكو”، نقلها عنه أحد محدثيه العرب”.. ثق أن هذا العرق اليهودي الشرير..يسيطر على العالم بأسره. تجد يهوداً في كل حكومة وفي كل مصنع وفي كل مصرف”. ويمكن الوقوف على تفاصيل أكثر في كتاب ألان غريش “فلسطين ــــــــ إسرائيل حقائق حول الصراع” ( 2007 ).

يوحي “سايكس” بهذه العبارة أن بريطانيا كانت ضعيفة أمام “سطوة اليهود” وأنها كانت مجبرة على إطلاق و”عد بلفور”. وينافق مؤرخون صهاينة في الاتجاه نفسه عندما يؤكدون أن الوعد تم أيضاً عرفاناً بجميل الكيميائي “حاييم ويزمان” وهو قيادي صهيوني بريطاني كبير، مخترع طريقة “استخدام الاستون في المتفجرات” خلال الحرب العالمية الأولى. ويمتد النفاق إلى افتراض أن بريطانيا كانت ترغب في استمالة المصرفيين اليهود في لندن والولايات المتحدة لتغطية تكاليف الحرب المتزايدة فقررت منح فلسطين للصهاينة، أو أنها فعلت ذلك بدافع الشفقة أو تحت تأثير “العداء للسامية” أو من أجل التخلص من اليهود في أوروبا وإرسالهم إلى الشرق.

تتهاوى هذه الأكاذيب كقصر من الكرتون الواحدة تلو الأخرى. فالحركة الصهيونية كانت هامشية في حينه ولا تزن في قرارات الدول الكبرى وزناً كبيراً، ناهيك عن أن معظم المصرفيين اليهود الكبار كانوا متمسكين بأوطانهم ويتوجسون من الصهاينة ولا يتعاطفون معهم. والملفت في هذا الصدد أن الفريد دريفوس الضابط اليهودي الفرنسي الذي اتهم زورا بالتخابر مع الألمان رفض استقبال وفد صهيوني عندما أُعيد الاعتبار إليه وهو ما يمكن اعتباره صفعة تاريخية لـ”تيودور هرتزل” الصحافي النمساوي الذي قال إن مشروعه لتأسيس الدولة اليهودية ولد من الظلم الذي شعر به أثناء تغطيته وقائع محاكمة دريفوس…الخ

لم تكن بريطانيا مجبرة كما يوحي “سايكس” على منح فلسطين للصهاينة بسبب مجتمع النخبة اليهودي، بل لأن “وعد بلفور” كان حجة بريطانية قوية للانتداب على فلسطين ولإقامة دولة صهيونية فيها تكون حارساً لخطوط المواصلات البريطانية نحو الهند الشرقية، وتتمركز في الشمال الشرقي لمصر على مرمى حجر من قناة السويس، وتحمي آبار النفط في إيران والعراق والجزيرة العربية. إن مباركة فرنسا لهذا الوعد في فبراير ــــــ شباط 1918 تؤكد طابعه الاستراتيجي بالنسبة للدولتين، إذ أقرت بحق بريطانيا في الانتداب على فلسطين وتخلت عن بند أساسي في اتفاقية “سايكس بيكو” ينص على أن تكون الأراضي الفلسطينية تحت السيطرة الدولية.

كانت فرنسا تأمل بأن يؤدي إنشاء الكيان الصهيوني إلى فصل المشرق العربي عن المغرب الكبير لحماية مستعمراتها ونفوذها في الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا. وقد باركت إيطاليا حيث مقر الفاتيكان هذا الوعد لاحقاً وهي التي تتطلع للوصول إلى الأماكن المقدسة التي لم تطأها قدم محتل أجنبي منذ مملكة القدس الصليبية في القرن الثالث عشر، واشترطت ألاّ يتعرض الصهاينة للطوائف غير اليهودية في القدس وكانت لروسيا القيصرية الرغبة نفسها في حماية أملاك ونفوذ الكنيسة الأرثوذكسية. ولم تعترف الولايات المتحدة الأميركية بوعد بلفور ولم ترفضه ولعلها وقفت على الحياد بانتظار التطورات اللاحقة التي ستشهد انهيار الغلبة البريطانية ــــــ الفرنسية على الساحة الدولية، وتحول أمريكا إلى القوة الأعظم في العالم. تلك هي باختصار شديد رهانات وحسابات “وعد بلفور” وما عداها يدخل إما في خانة الكذب البواح أو في حسابات صغيرة هامشية لا تتعلق بجوهر الموعود .

هذا “الوعد القذر” الكولونيالي لا يعترف بوجود فلسطينيين في فلسطين، إذ يشير إلى وجوب احترام حقوق “الطوائف غير اليهودية” ولن تظهر هوية الفلسطينيين على الملأ إلا مع بداية الصراع مع الصهاينة.

لم تكذب بريطانيا في “وعد بلفور” فحسب فقد كذبت أيضاً في وعد “لورانس العرب” للشريف حسين بتأسيس دولة قومية عربية يرثها أبناؤه من بعده إن هو قاتل العثمانيين وقد رأينا من بعد النتائج الكارثية التي ترتبت على هذا الوعد الكاذب.

بخلاف الصهاينة الذين يمكن اعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الغربية الكولونيالية المنتصرة على السلطنة العثمانية التي كانت تعيد رسم خرائط الشرق الأوسط وفق مصالحها، كان العرب أشبه بالحطام إذ تشير الأرقام الثابتة أن ثلث الجيش العثماني كان من العرب وأن الجيوش الفرنسية والبريطانية والإيطالية كانت تضم عشرات الآلاف منهم وبالتالي فهم مهزومون بغض النظر عن المنتصر.

في مئويته يبدو وعد بلفور أشبه بمجموعة “أكاذيب متفق عليها” وقد انطلت علينا طويلاً إلى حد بات معه تبدديها شرطاً أساسياً للتمتع بصحة عقلية سليمة هي شرط لا بد منه لقهر المشروع الصهيوني.