​مئوية تصريح بلفور وهزيمة “إسرائيل” القادمة

ليس صحيحاً أن "آرثر بلفور" كان لا سامياً أي معادياً لليهود ومعارضاً لهجرتهم إلى بريطانيا، فهذا لا يستقيم مع ما تشيعه أوساط يهودية أن بلفور أصدر وعده لرفع الاضطهاد عن اليهود في أوروبا، وعن إحساسه بالشفقة عليهم للاضطهاد الذي عانوه هناك، وذلك بإنشاء إسرائيل كأحد أعمال التعويض عليهم.


يُعيد مرور الذكرى المئوية لتصريح وزير الخارجية البريطاني السابق، آرثر جيمس بلفور، في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، إلى اللورد اليهودي البريطاني، ليونيل روتشيلد، بتأييد الحكومة البريطانية لإنشاء “وطن قومي لليهود في فلسطين”، كل أسباب الصراع التي لم تنته. ففي الوقت الذي كان فيه هذا التصريح منطلقاً لالتقاء مصالح بريطانيا الاستعمارية مع المخططات الصهيونية بإقامة هذا الكيان الاحتلالي، على أرض فلسطين العربية، والذي أعطى من خلاله من لا يملك من لا يستحق، وعداً بتأسيس “وطن قومي”، وبذل الحكومة البريطانية “غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية”، وهذا ما لم تُقصّر به!! ونتج من التقاء مصالح بريطانيا مع المنظمة الصهيونية العالمية اتفاق يقضي بأن تعمل الأخيرة لقاء وعد بلفور في مؤتمر الصلح في “فرساي” على مساعدة بريطانيا بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين. وهذا ما حصل بالفعل. وفي إطار الالتزام العملي بوعد بلفور، طرحت بريطانيا فكرة التقسيم لتنفيذ الوعد لأول مرة عام 1937 لالتزامها في تحقيقه، والذي وافقت عليه الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا.

وليس صحيحاً أن “آرثر بلفور” كان لا سامياً أي معادياً لليهود ومعارضاً لهجرتهم إلى بريطانيا، فهذا لا يستقيم مع ما تشيعه أوساط يهودية أن بلفور أصدر وعده لرفع الاضطهاد عن اليهود في أوروبا، وعن إحساسه بالشفقة عليهم للاضطهاد الذي عانوه هناك، وذلك بإنشاء إسرائيل كأحد أعمال التعويض عليهم. أما الحقيقة فهي أن بلفور أراد التخلّص منهم ومن مكائدهم في أوروبا وإرسالهم إلى فلسطين وحل المسألة اليهودية في أوروبا على حساب الشعب الفلسطيني. وهذا يؤكّده موقفه بعدما تولّى في عامي 1903 و1905 رئاسة الوزارة البريطانية، فهاجم المهاجرين اليهود إلى بريطانيا الذين كانوا يرفضون الاندماج في المجتمع الإنكليزي، وأصدر تشريعات عديدة تحدُّ من هجرة يهود أوروبا الشرقية إلى إنكلترا.

وقامت ظاهرة الاستعمار الاستيطاني اليهودي لفلسطين على أسس استعمارية وعنصرية تخالف مبادئ القانون الدولي والعهود والمواثيق والاتفاقات الدولية، وارتبطت هذه الظاهرة بالعنف والاستيلاء على أراض ٍهي ملك لأصحابها الشـرعيين بالقوة، مع التخطيط المُسـبَق لطرد هؤلاء السكان واستئصال حضارتهم والقضاء على وجودهم.. فقد شكّل الاستيطان عنصراً رئيسياً من عناصر إقامة دولة اليهود في فلسطين، باعتباره وسيلة عملية تهدف إلى تهويد فلسطين وإقامة الكيان الاستيطاني فيها وتزويده بالعنصر البشري باستمرار لتقوية طاقاته العسكرية والاقتصادية والبشرية.

وسار الانتداب البريطاني وبشكل مُمنهَج ضمن أربعة منهجيات رئيسية في سياسته لتثبيت الكيان الصهيوني في فلسطين:

حق انتزاع الأراضي الفلسطينية. ودعم وتشجيع الهجرة اليهودية. والتشجيع والدعم للمشروعات الاقتصادية اليهودية. وقمع الشعب الفلسطيني.

وبعد أن أصدرت “لجنة بيل” الملكية تقريراً متحيّزاً حول أسباب العنف الذي حدث إبان ثورة 1936، فجاءت معظم توصيات اللجنة لصالح الحركة الصهيونية، وكان من بين توصياتها تقسيم فلسطين، تفجّرت ثورة 1937 كبداية لسلسلة من الثورات العارِمة التي عمّت ريف فلسطين، مستفيدين من خبراتهم في ثورة 1936.

ومن هنا، فإن مشروع “إسرائيل” في فلسطين هو نتاج مشروع استعماري، تلتقي فيه المصالح، ويغذّي كل من المركز والأطراف الآخر، ويعطيه أسباب الحياة والاستمرارية والبقاء والتطوّر في إطار وظيفة كلٍّ منهما تجاه الآخر وبالتعاون معه في مخطط إدارة المنطقة العربية. وهذا يعكس الأزمة المزدوجة التي تعيشها أمّتنا، بأنها ذات وجهين لا ينفصل أحدهما عن الآخر: الاستعمار والقابليّة للاستعمار. الاستعمار من خلال الهجمة الغربية الاستعمارية لإبقاء الهيمنة على العالم وبالأخصّ على عالمنا العربي والإسلامي، وفي المقابل هناك سبب ذاتي داخلي هو القابليّة للاستعمار ما مكّن هذا الاستعمار وقوّاه في هذا المجال من خلال واقع التخلّف والتبعية والتغريب وإقامة الكيان الصهيوني كحارس لهذا التفتيت وهذه التجزئة.

إن مرور مئة عام على وعد بلفور، وأكثر من سبعين عاماً على إقامة الكيان “الإسرائيلي” في فلسطين، لا يعني أن هذا ليس حتمية لا يمكن تغييرها والفكاك منها، وإنما له دلالات واضحة على أن هذه الأمّة تعيش مرحلة ـ عاشت مثلها من قبل ـ، ويمكن لها أن تتجاوزها ما دامت مستمرة في نضالها ومقاومتها لهذا المشروع المعادي. وتاريخياً واجهت هذه الأمّة تحديات وتهديدات كبرى ما لبثت أن تجاوزتها، فالمقاومة هي سمة لهذه الأمّة “لا تنقطع مهما عظمت الشدائد أو انحسرت النتائج”.

ويشير ما كتبته الدكتورة “نادية مصطفى” في بحث لها نُشِر مؤخراً بعنوان: (المشروع الصهيوني والنظام الدولي عبر مائة عام من وعد بلفور) إلى “أن إنجازات إسرائيل التي وصلت إلى إعلان “تحالف استراتيجي بين العرب وإسرائيل” ليست إعجازاً إسرائيلياً خارقاً لا يمكن مقاومته، ولكنها محصّلة “التردّي العربي الرسمي” من ناحية، والمساندة الدولية الخارجية للمشروع الصهيوني وصنيعته إسرائيل من ناحية ثانية، والتلاعُب بالنُظم العربية والضغط عليها للاستسلام.. من ناحية ثالثة.

وبينما تُقاتلنا “إسرائيل” في ظل مشروع القومية اليهودية والتديّن القومي اليهودي، نجد أن الفلسطينيين العرب، وهم جزء من الشعب العربي والعمق الإسلامي، يواجهون المشروع الاستعماري وحدهم وضمن تقسيمات الاقليم العربي إلى دول منفصلة منذ عام 1918. ويشير الكاتب “شفيق ناظم الغبرا”، أنه “بينما تقاتل بمعنى آخر، الصهيونية بصفتها الشكل العنصري للقومية اليهودية، تعتمد على يهود العالم وقوّتهم المالية وقدراتهم الفكرية وتعتمد على عمقهم في الغرب وخبراته، بينما الفلسطينيون يواجهون عدواً متفوّقاً من دون العُمق العربي وبلا القومية العربية أو الإسلامية. لهذا فإن أسلحة الصهيونية والدعم الذي تحظى به من قِبَل قوى متعاطفة مع الدولة اليهودية في الغرب فرض نفسه على ميزان القوى. وبين الحاضر وإمكانية بروز العُمق العربي مجدّداً، لا بد من قيام الفلسطينيين بأعمال ونضالات تسمح لهم بالصمود ووضع كوابح حقيقية أمام المشروع الصهيوني”.

وفي ذكرى مرور مئة عام على وعد بلفور ينبغي العمل على استخلاص الدروس والعِبَر، أنه بينما ركّزت الحركة الصهيونية على خلق الوقائع على الأرض، وبناء المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كانت النُخبة السياسية الفلسطينية موجودة على الأرض التي خسرتها في ما بعد. كما ثبُت من بعد تصريح بلفور وحتى اللحظة، من خلال مسيرة المقاومة المستمرة أنه توجد إمكانية حقيقية لهزيمة “إسرائيل” وتفكيك مشروعها الاستعماري.