الدولة العثمانية ووعد بلفور

قبل سقوطها في أيدي الاحتلال الإنجليزي في 9 ديسمبر/كانون الثاني 1917، كانت فلسطين تخضع للإدارة العثمانية التي حاولت، بحسب الوثائق التاريخية، بذل جهود حثيثة للحيلولة دون تحقيق الصهاينة ما يرمون إليه من تأسيس دولة لهم في فلسطين.

 

بينما كانت الحرب العالمية الأولى لا تزال مستمرة، منح وزير الخارجية البريطاني، آرثر جيمس بلفور، للناشط السياسي الصهيوني، بارون دي روتشيلد، وثيقة تعده باستعداد المملكة البريطانية بتأسيس وطن لليهود على الأراضي الفلسطينية، وهو ما أُطلق عليه فيما بعد وعد بلفور الذي ساهم في تبنى الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية فكرة إنشاء وطن لليهود.

قبل سقوطها في أيدي الاحتلال الإنجليزي في 9 ديسمبر/كانون الثاني 1917، كانت فلسطين تخضع للإدارة العثمانية التي حاولت، بحسب الوثائق التاريخية، بذل جهود حثيثة للحيلولة دون تحقيق الصهاينة لما يرمون إليه من تأسيس وطن في فلسطين.

ويُذكر أن المخطط والمُدير الأول لمؤتمرات واجتماعات تجميع اليهود حول فكرة تأسيس وطن قومي في فلسطين هو المفكر والصحافي الصهيوني، ثيودر هرتزل، الذي ترأس الوكالة اليهودية، وكتب كتاب “الدولة اليهودية”، في 14 شباط/فبراير 1896، موضحاً فيه أن “اليهود قومية بلا وطن، ولا تُحل قضيتهم إلا من خلال وطن واحد، ولا بد أن يكون هذا الوطن في أرض الله الموعودة لليهود “فلسطين”، وإن لم ننجح ببناء وطناً في فلسطين يمكن أن يكون وطننا في أوغندا أو الأرجنتين، ولكن لا بد من أن يكون موعدنا في فلسطين التي وهبنا إياه الرب بوعده”.

لقد باتت قصة رفض السلطان عبد الحميد الثاني بيع أو تسليم جزء من فلسطين، من الأمور البديهية في الوطن العربي. بدأ هرتزل مشواره في محاولة إقناع السلطان عبد الحميد عبر الإمبراطور الألماني فيلهم الثاني، ولكن لم يستطع الوصول إلى مبتغاه، الأمر الذي دفعه إلى زيارة إسطنبول بنفسه للقاء السلطان عبد الحميد وإقناعه بفكرة “المقايضة” التي كانت تقوم على سداد ديون الدولة العثمانية في مقابل منح السلطان عبد الحميد لهم جزءاً من فلسطين.

وفي دراسة أكاديمية له في مجلة “دارين تاريخ” التركية (مجلة التاريخ العميق)، يتناول المؤرخ التركي مصطفى أرمغان، موقف السلطان عبد الحميد الثاني مع التحرك الصهيوني في دراسة أكاديمية بعنوان “حرب السلطان عبد الحميد الثاني مع الصهيونية”. وفي بداية دراسته، يُشير أرمغان إلى أن الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917 تم، بينما كانت فلسطين خاضعة لإدارة الدولة العثمانية، وهو ما يمكن وصفه بالاعتداء الصارخ على سيادة الدولة العثمانية التي تُعد تركيا وريثاً شرعياً لها، وتتحمل إلى اليوم المسؤولية السياسية في دعم القضية الفلسطينية وفق رأيه.

لقاء هرتزل مع السلطان عبد الحميد

ووفقاً للأرشيف العثماني، فقد سبق لقاء عبد الحميد الثاني مع هرتزل إصداره قراراً عام 1882، يسمح لليهود بزيارة القدس بهدف الحج فقط، غير أن اليهود واظبوا على شراء الأراضي بشكل خفي وطرق ملتوية، فعمل السلطان عبد الحميد الثاني في 5 آذار/مارس 1883، على إصداره مسودة قانونية عُرفت باسم “الإرادة الثانية” تُلغي ملكية اليهود للأراضي بالكامل، وتقضي بتحريم بيع أي شبر من فلسطين لليهود، وقد ظلت هذه المسودة سارية حتى عزله عن العرش عام 1909. وخلال تلك الحقبة، قام السلطان عبد الحميد بشراء الأراضي التي يريد أهلها بيعها.

وبعد مرور فترة من الزمن، لُوحظ أن المواطنين العثمانيين اليهود هم من يشترون الأراضي باسم الوكالة اليهودية، فأصدر السلطان عبد الحميد في 3 نيسان/أبريل 1893، قراراً يشمل حظر منع الأراضي إلى المواطنين العثمانيين من ذوي الأصول اليهودية. وقد سبق هذا القرار قرار صدر عام 1891، يمنع أي إنسان يهودي غير عثماني من الهجرة إلى الدولة العثمانية والإقامة على أراضيها.

وكالعادة، لجأ اليهود إلى المكر، من خلال الهجرة إلى روسيا ودول أوروبا الشرقية وألمانيا والنمسا وبريطانيا، للحصول على جنسياتها والهجرة إلى فلسطين بهذه الهوية، لكن لاحظت وزارة الداخلية العثمانية هذه الخديعة، فأصدرت في آب/أغسطس 1898 قراراً ينص على منع بيع الأراضي لليهود مهما كانت جنسياتهم.

وبينما كان السلطان عبد الحميد يسعى لمحاربة المحاولات اليهودية للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، رأى هرتزل ضرورة اللقاء مع السلطان العثماني، لإقناعه بمنح وطن لليهود في فلسطين، وحاول إرسال طلبه إلى السلطان عبد الحميد من خلال زيارته لإسطنبول في حزيران/يونيو 1896، مستنداً إلى العلاقة الودية التي تربط صديقه البولندي نيولنسكي، رئيس تحرير بريد الشرق، بالسلطان، إذ كان يعتبر عين السلطان عبد الحميد في أوروبا.

عندها ركن نيولنسكي إلى نقطة إمكانية دعم السلطان عبد الحميد في حل مسألة التمرد الأرمني، لإقناع السلطان عبد الحميد بلقاء هرتزل، غير أنه لم يوفق في ذلك، وقابل نيولنسكي السلطان عبد الحميد لوحده من دون هرتزل، وعرض عليه فكرة هرتزل، غير أن السلطان قال له قولته الشهيرة “إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض، لأنها ليست ملك يميني.”

معاهدة سيفر وقبول الدولة العثمانية بوعد بلفور

وبعد مرور أربعة أعوام، زارت هيئة صهيونية برفقة النائب اليهودي في مجلس “المبعوثان” العثماني، إيمنوال كاراسو، في 17 أيلول/سبتمبر 1901، عارضةً على السلطان عبد الحميد 20 مليون قطعة ذهبية، في مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، كي يكون بإمكانهم تفادي الجرائم التي تُرتكب بحقهم في روسيا، غير أن السلطان عبد الحميد طردهم بغضب.

وعاد هرتزل إلى إسطنبول في 19 أيار/مايو 1901، ملتقياً السلطان عبد الحميد الذي عرض عليه منطقة ما بين النهرين، إلا أن تلك المنطقة لم تكن موجودة في خطط هرتزل.

وبحسب ما يوضحه المؤرخ أرمغان في دراسته، فإن الدولة العثمانية قد “حاولت منذ عهد السلطان عبد الحميد الثاني وحتى عام 1917، حماية فلسطين ومنع اليهود عن الهجرة إليها، ولكن ضعفها، ودعم الدول “الإمبريالية”، وتآمر العديد من الرموز التركية والعربية على الدولة العثمانية، حال دون نجاح الدولة العثمانية في حماية فلسطين”.

ونتيجة لضعف الدولة العثمانية، فقد تم قبول وعد بلفور في معاهدة سيفر المبرمة بين الدولة العثمانية ودول الحلفاء في 10 آب/أغسطس 1920، وعلى إثر ذلك تم قبول الحماية البريطانية على فلسطين عام 1922، من قبل عصبة الأمم.

لقد رفضت حكومة أنقرة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك معاهدة سيفر، بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، حيث تم استبدالها بمعاهدة لوزان، لكن لم تطالب الجمهورية التركية حينها باسترداد مناطق سيطرتها في منطقة الشرق الأوسط، مما أبقى على فلسطين تحت الحماية البريطانية التي آلت بها إلى احتلال إسرائيلي يذوق الفلسطينيون مرارته حتى يومنا هذا.

وثيقة تُظهر حظر بيع الأراضي الفلسطينية لمواطنين عثمانيين من أصول يهودية ـ المصدر: مجلة إسطنبول تاريخ نقلاً عن أرشيف رئاسة الوزراء التركية.