‏بين المؤثرين والمثقفين.. البقاء للأقوى أم للأعمق؟

الاشراق | متابعة.

في كثير من الفعاليّات، حيث يُفترض أن يلتقي الفكر بالفكر وتدور حوارات عميقة ومؤثرة، أجلس مصغياً لأولئك الذين باتوا نجوم الزمن الراهن. أسمعهم يردّدون جملاً ونصائح من نوع "كن إيجابياً"، "احلم حلماً كبيراً"، "الثقة مفتاح النجاح"، في حفنة من الكليشهات المستهلكة التي تُقدَّم وكأنها شذرات حكمة لم يسبق أن نطق بها بشر. فلا أملك سوى تذكّر قول إميل سيوران: "لا شيء يُظهر انحطاط العصر أكثر من وفرة النصائح الجاهزة فيه."

في مشهد الثقافة المعاصرة، تتحول هذه الملاحظة الشخصية إلى ظاهرة لافتة؛ إقبال جماهيري واسع على متابعة من يُسمون أنفسهم "المؤثرين" في منصات التواصل الاجتماعي، رغم أن محتوى كثير منهم لا يعدو كونه تكراراً لبديهيات معروفة أو انغماساً في تفاصيل حياتية لا تعني سوى صاحبها. هذا الإقبال الذي يبدو للوهلة الأولى مجرد موضة عابرة، يحمل في طياته دلالات عميقة عن التحولات الجارفة في بنية الوعي الجمعي، وعن أزمة الثقافة والمثقف في زمن طغت فيه الخوارزميات على العقول، وتراجعت فيه القيم المعرفية لمصلحة ثقافة الاستهلاك السريع.
 
من الأسرة إلى الشاشة
 
لم تعد الأسرة أو المدرسة أو الجامعة المصادر الوحيدة للمعارف والقيم، بل فقدت هذه المؤسسات هيمنتها التقليدية لمصلحة قوى جديدة. تشير الإحصاءات إلى أن الدور التربوي للأسرة تقلّص كثيراً في مواجهة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. لقد أصبح طفل اليوم يتنقل بلمسات أنامله بين العوالم والثقافات، ويتعرض لمختلف الرسائل الإعلامية مجهولة المصدر أو الهدف. بات الأمر وكأن العالم كله يشاركك في تربية ابنك! بينما في السابق كان بإمكان المربي أن يعزل ابنه عن كل مصدر غير مرغوب أو موثوق به.

في المقابل، يشهد العالم نمواً هائلاً في صناعة المؤثرين، حيث وصلت قيمة هذه الصناعة إلى 24 مليار دولار عالمياً في العام الماضي، فيما يخطط معظم شركات التسويق لزيادة الإنفاق على التعاون مع المؤثرين في الأعوام المقبلة. ولم يعد هذا المجال مقصوراً على المشاهير التقليديين، بل أصبح كثير من العلامات التجارية العالمية يتجه للتعاون مع "المؤثرين الصغار" الذين يتمتعون بمتابعين أقل عدداً ولكن أكثر تفاعلاً وولاءً. 

لقد تحولت بؤرة التأثير من المؤسسات الراسخة إلى الشاشات الصغيرة، حيث لم يعد الأب والأم أو الجد والجدة هم القدوة، بل بات صناع المحتوى -غثه وسمينه- رموزاً يُقتدى بهم. ومع أن ثمة استثناءات لمؤثرين جادين في مجالات العلم والتوعية والثقافة، إلا أن الصوت الأعلى يبقى للنموذج الاستهلاكي الترفيهي السطحي.
 
لماذا تنتصر السطحية؟
 
ثمة عوامل متشابكة تكمن وراء هذا الإقبال الجماعي على ثقافة السطح، يمكن تشريحها في دوافع رئيسية. ففي المجتمعات المنكوبة بالحروب والمآسي والأزمات الاقتصادية والاجتماعية كما هي الحال في مجتمعاتنا العربية، يلجأ الناس إلى ما يريحهم لا إلى ما يتعبهم. إن الكم الهائل من الهموم والمعاناة اليومية يدفع بالكثيرين إلى البحث عن مهرب من واقعهم المرير، فيجدون في محتوى المؤثرين الخفيف مساحة للتنفس بعيداً عن تعقيدات الحياة وضغوطها.

إنه نوع من التخدير الجماعي الذي يسمح للإنسان بأن ينسى واقعه المؤلم، ولو لفترة وجيزة.

ولكن هذا الهروب لم يكن ليكتسب هذه الزخم لولا فشل النخب المثقفة في أداء دورها التنويري، حيث تخلى كثير من المثقفين عن هذه المهمة إما لتحولهم إلى "مثقفي بلاط" وأبواق سلطوية، أو لتقوقعهم على أنفسهم وعجزهم عن التكيف مع أدوات العصر وتقنياته، أو لانخراطهم في سباقات التصنيفات الرقمية ذاتها. هذا الفشل خلق فراغاً ثقافياً كبيراً ملأه المؤثرون الذين قدموا خطاباً بسيطاً وسهل الاستهلاك، حتى لو كان يخلو من العمق والفائدة الحقيقية.

ويتكشف هنا المحرك الخفي الأقوى: العامل الاقتصادي القائم على تسليع الانتباه البشري. تصميم المنصات لا يهدف إلى التعميق الفكري، بل إلى تعظيم وقت المشاهدة والتفاعل لأغراض إعلانية. وهكذا يُسوّق "الهروب" كسلعة، ويُحول المؤثر إلى حلقة في سلسلة إنتاج واستهلاك ضخمة. وهذا يقترن بدور طغيان الخوارزميات في تكريس السطحية، فهذه الخوارزميات مصممة لتحفيز إدمان المحتوى عبر استهداف نظام المكافأة في الدماغ (الدوبامين)، ما يخلق حلقة مفرغة من التفاهة المُعَزَّزة آلياً. إنها تشبه تياراً جارفاً يصعب على الفرد العادي مقاومته، خاصة عندما يكون محاطاً به من كل اتجاه.

وقد أسهم تراجع المستوى الثقافي والتعليمي في معظم بلدان العالم العربي ودول العالم الثالث في خلق تربة خصبة لانتشار الثقافة السطحية، حيث لا تزال المؤسسات التعليمية تعتمد على الحفظ والتلقين بدلاً من تنمية التفكير النقدي والإبداعي، ما ينتج أجيالاً تفضل السهل والميسور على المعقد والعميق.
 
تفكيك الإنسان وطمس الهوية
 
لا تقف تداعيات هذه الظاهرة عند حد التحول الثقافي، بل تمتد لتُفكك النسيج الاجتماعي والإنساني نفسه. فأدى تغلغل المؤثرين في الحياة اليومية إلى تآكل دور الأسرة كمركز للتوجيه والتأثير. فالأبناء والبنات أصبحوا يتلقون قيمهم ومفاهيمهم من شخصيات افتراضية لا يعرفونها حق المعرفة، بينما فقد الآباء والأمهات السيطرة على العملية التربوية. لقد أصبح الوالدان أشبه ببحارين في قارب صغير يحاولان مقاومة إعصار رقمي هائل.

على الصعيد الفردي، تؤدي الثقافة الاستهلاكية السطحية إلى إنتاج أفراد "مجوفين" داخلياً، يفتقرون إلى الرسوخ في القيم والمرونة الكافية للتأقلم مع متغيرات الحياة. هؤلاء الأفراد يسهل قيادهم وتوجيههم من قبل أي جهة تتحكم في تغذية عقولهم بالمعلومات. إنهم كالقش في مهب الريح، يتجهون حيثما تأخذهم التيارات المختلفة من دون قدرة على المقاومة أو الاختيار الواعي.

أما على المستوى الحضاري الأوسع، فتعمل ظاهرة العولمة والثقافة المهيمنة على طمس الخصوصيات الثقافية المحلية، حيث تقدم المضامين ذات الطابع العالمي الموحد على حساب الثقافات المحلية المتنوعة. هذا يؤدي إلى فقدان التنوع الثقافي الذي يشكل ثراء للبشرية جمعاء، واستبداله بثقافة واحدة مسطحة تفتقر إلى العمق والجذور، وهو ما يحذر منه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو حين يقول: "الثقافة الشعبية الجديدة تمثل شكلاً من أشكال العنف الرمزي، حيث تُفرض أنماط الاستهلاك كبديل عن العمق الفكري".
 
نحو صحوة ثقافية متجددة
 
إن تحول البشرية إلى ثقافة الاستهلاك السريع للمحتوى السطحي ليس قدراً محتوماً، بل هو نتيجة لتراكم اختيارات فردية وجماعية، وتهاون النخب في أداء دورها، وطغيان النموذج الاستهلاكي على كل مناحي الحياة. لكن الأمل لا يزال قائماً في إمكانية صحوة ثقافية تعيد الاعتبار إلى الفكر العميق، والمحتوى الهادف، والثقافة الجادة.

التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد صيغة توازن بين متطلبات العصر الرقمي وبين الحفاظ على القيم الجوهرية للإنسان. وهذا يتطلب جهوداً متضافرة تبدأ بـ "تعليم إعلامي نقدي" في المناهج الدراسية، لبناء مناعة فكرية قادرة على تمييز الغث من السمين. كما يتطلب مشاريع تنويرية رقمية مبتكرة، تستفيد من أدوات العصر لتقديم المحتوى الجاد بلغة جذابة، على غرار قنوات اليوتيوب والبودكاست الناجحة التي تثبت أن العمق يمكن أن يكون مشوقاً.

إننا نحيا في حقبة تتطلب خروج المثقفين والمؤسسات الثقافية التقليدية (دور النشر، المكتبات، المسارح) من قوقعتها، وانخراطها بجرأة وذكاء في الفضاء الرقمي، ومحاورة الأجيال الجديدة بلغتها من دون التنازل عن الثوابت الفكرية. كما تستدعي وعياً فردياً بمسؤولية الاختيار، والبحث عن المساحات النوعية وسط الضجيج.

لقد أصبحنا نواجه معضلة وجودية: إما أن نكون أو لا نكون، إما أن نحافظ على إنسانيتنا العميقة أو نستسلم للسطوح الزائفة. المعركة ليست بين القديم والجديد، بل بين العمق والسطح. والخيار، في النهاية، خيارنا.


زاهي وهبي - شاعر لبناني وإعلامي