ثروة العالم في أيدي الأقلية .. هوة التفاوت تبتلع المزيد من الفقراء!
الاشراق | متابعة.
تحوَّل التفاوت وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية في العقود الأخيرة من قضية هامشية إلى منعرج مركزي في فهم ديناميات الاقتصاد العالمي وتشكيل المجتمعات، حيث لا تعكس الفوارق في الدخول والثروات اختلافات في الكفاءة فحسب، بل تُظهر أيضاً عمق الاختلالات البنيوية في نظم التعليم، والأسواق، والسياسات الضريبية، والفرص المتاحة للأفراد عبر الدول والمناطق المختلفة.
في 2025، لم يتغير الكثير، بل باتت هذه الظاهرة تشكل تحدياً مباشراً للاستقرار الاقتصادي، والتنمية البشرية، والاستقرار السياسي على حد سواء، ويتطلب تحليلها فهماً دقيقاً لآلياتها وأبعادها المتشابكة.
الثروة في أيدي الأقلية
أحدث البيانات والبُنى البحثية حول التفاوت العالمي تُظهر أن التركيز في توزيع الثروة وصل إلى مستويات غير مسبوقة. وفق تقرير عدم المساواة العالمي الجديد، يُسيطر أقل من 0.001% من سكان العالم -نحو 56 ألف شخص- على ثروة تعادل ثلاثة أضعاف ما يملكه نصف أفقر سكان العالم مجتمعين. هذا يعني أن شريحة ضئيلة جداً تملك قوة اقتصادية هائلة مقابل مليارات الأشخاص الذين يمتلكون حصة ضئيلة للغاية من الثروة العالمية.
البيانات ذاتها تكشف أن الأغنى 10% من سكان العالم يمتلكون نحو 75% من إجمالي الثروة العالمية، بينما يمتلك النصف الأفقر (نحو 2.8 مليار بالغ) أقل من 2% من الثروة. هذه الفجوة الهائلة لا تشير فقط إلى تباين في الأصول المالية، بل إلى تركيز رأس المال الحقيقي في أيدي عدد قليل للغاية، ما يجعل التحكم في القرارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى (مثل الاستثمار، التمويل، والتوظيف) في يد فئة ضئيلة نسبياً.
تكشف هذه الأرقام عن هيكل ثروة عالمي متمايز بشكل حاد، بحيث تتجاوز الفوارق في الدخل مجرد اختلافات في الأجور لتصل إلى آليات احتجاز الثروة وتوريثها واستثمارها بطرق تفاقم التفاوتات بمرور الزمن. ويُلاحظ أن ثروة هذه الشريحة الصغيرة المتفوقة تنمو بوتيرة أسرع من باقي المجتمع العالمي، ما يعزز من الاستقطاب الاقتصادي ويخلق بيئة تتّسم بـالاستقرار النسبي للأثرياء مقابل هشاشة متزايدة للأغلبية.
فجوات وفقراء
التفاوت لا يقتصر على مجموع الثروات، بل يشمل توزيع الدخل نفسه، وهو عامل محرك لتفاقم الفجوات الاجتماعية. وتشير بيانات نموذجية من تقارير التنمية العالمية إلى أن الدخل يتوزع بطريقة غير متكافئة بين شرائح المجتمع العالمي، حيث أن أغنى 10% يستحوذون على نسبة غير متناسبة من الدخل العالمي، بينما يبقى الجزء الأكبر من السكان خارج دوائر الدخل المرتفع.
في هذا السياق، لا تُعد الفوارق في الدخل مجرد نتيجة لهيكل اقتصادي معين، بل هي عوامل معززة للتفاوت في فرص التعليم والوصول إلى الموارد الاقتصادية، خاصة عندما يكون الدخول الأعلى مرتبطاً بإمكانية الوصول إلى أعلى درجات التعليم، والخدمات المالية، والقدرة على الاستثمار. وهذا بدوره يخلق حلقة من التفاوت الذي يتكرر عبر الأجيال، مما يصعب كسرها بدون سياسات تصحيحية واضحة.
التعليم كعامل مركزي في تحديد التفاوت
يلعب عامل التعليم إحدى أدوار المفتاح في تحديد المسارات الاقتصادية للأفراد والمجتمعات، إذ إن الفجوة في مستويات التعليم تؤدي إلى تفاقم اختلافات الدخل والثروة. ففي العديد من المناطق، تكون فرص التعليم المتقدم والوصول إلى مؤسسات تعليمية عالية الجودة متاحة بشكل أكبر للطبقات الأعلى دخلاً، بينما يعاني الفقراء من محدودية الخيارات التعليمية أو نقص الاستثمار في القرية أو الحي الذي يعيشون فيه.
هذا التفاوت في التعليم لا ينعكس فقط على الدخول المستقبلية، بل يقوّض الفرص الأساسية المتاحة للفرد لبناء مهارات يستطيع من خلالها الوصول إلى وظائف أكثر استدامة وأعلى دخلاً. وبالتالي، فالفارق في جودة التعليم يعد من بين المحركات الأساسية للفجوة بين الفئات الاقتصادية المختلفة، ويتطلب سياسات تُعزز من تكافؤ الفرص التعليمية بدون اعتبار للهوية الجغرافية أو الاجتماعية.
السياسات الضريبية والتوزيع العادل كآليات مواجهة
من منظور السياسات العامة، تُشكّل الضرائب التصاعدية، والبرامج التحويلية، ودعم الخدمات الأساسية أدوات مركزية يمكن أن تساهم في تخفيف حدّة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي. ففي الاقتصادات التي تعتمد على نظام ضريبي متدرج وقادر على جمع إيرادات كافية، يمكن استخدام هذه الموارد لتعزيز التعليم والصحة والبنية التحتية، مما يتيح فرصاً أوسع للأفراد في الطبقات الدنيا والمتوسطة على حد سواء.
حين يكون النظام الضريبي شفافاً وفعّالاً، فإن الإيرادات التي تُجمع من الأفراد والشركات الأعلى دخلاً يمكن أن تموّل شبكات أمان اجتماعي، وتدعم الاستثمار في رأس المال البشري، وتقلّل من حدة الفوارق في الدخول والثروات. لكن في العديد من المجتمعات، يُلاحظ أن الأسر ذات الدخل المرتفع تستفيد من إعفاءات ضريبية أو ثغرات تشريعية تقلّص العبء الضريبي عليها، مما يزيد من قدرتها على الاحتفاظ بجزء أكبر من دخلها وثروتها مقارنة بالفئات الدنيا.
سياسات التحويلات الاجتماعية، سواء كانت على شكل دعم نقدي مباشر، أو خدمات مجانية مثل التعليم والرعاية الصحية، تُعدّ آليات أساسية لتسهيل انتقال الفقراء نحو فرص اقتصادية أفضل. لكنها تحتاج إلى تصميم دقيق يضمن وصولاً فعّالاً إلى المستفيدين، ويُراعي جوانب الاندماج الاجتماعي بدون تهميش لأي فئة.
التداعيات الاقتصادية والاجتماعية تتزايد
التفاوت الاقتصادي والاجتماعي لا يؤدي فقط إلى اختلافات في مستويات المعيشة، بل يمتد أثره إلى البنية الاجتماعية ذاتها. الفجوات الحادة في الدخول والثروة يمكن أن تُفضي إلى نوع من الاستقطاب الطبقي والعزلة الاقتصادية، حيث يعيش الغني في دوائر موازية عن الفئات الفقيرة، مما يعزز من الانقسامات الاجتماعية ويضعف من الشعور بالانتماء الوطني والاجتماعي.
من جانب آخر، قد يؤدي استمرار توسيع فجوة الثروة إلى ضعف الطلب الكلي في الاقتصاد. فالشرائح ذات الدخول المنخفضة لا تمتلك قدرة كبيرة على الاستهلاك أو الادخار، مما يُضعف الأسواق المحلية ويحدّ من القدرة على النمو الاقتصادي المستدام. هذه الديناميات تضع الحكومات أمام تحدٍ مزدوج: تحقيق النمو الاقتصادي والحفاظ على عدالة توزيعية تُجنّب المجتمعات الانزلاق نحو مزيد من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي.
نحو فهم شامل لعوامل التفاوت
التفاوت وعدم المساواة الاقتصادي والاجتماعي يُمثّلان قضية مركزية في فهم التحديات العالمية الراهنة. الأرقام والبيانات تشير بلا لبس إلى أن الجزء الأكبر من الثروة والدخل يتجمع في أيدي شريحة صغيرة جداً من المجتمع العالمي، في حين تبقى الأغلبية في مواقع ضعف من حيث إمكانية الوصول إلى الموارد والفرص. هذه الحقيقة تستدعي تصميم سياسات اقتصادية واجتماعية متكاملة تعمل على تقليل حدة الفوارق، وتعزيز تكافؤ الفرص من خلال نظم ضريبية عادلة، واستثمارات في التعليم والصحة، وبرامج تحويلية فعّالة.
هذا التحدي يُلامس جوهر الاستقرار الاجتماعي والديمقراطي في عالمٍ يواجه تحديات متعددة تشمل التحولات الديموغرافية، وتغير المناخ، والابتكار التكنولوجي. أما معالجة عدم المساواة بعمق فتعني إعادة التفكير في الأسس التي تقاس بها الثروة والدخل والفرص، من أجل بناء نظم اقتصادية أكثر عدالة واستدامة في المستقبل.
الكاتب: نور الدين اسكندر