"قرية الأرامل".. مخيم خاص للنساء في غزة يمنحهنّ الأمان والخصوصية
الاشراق | متابعة.
في الركن القصيّ من خريطة النزوح، حيث تتقاطع الخيمة مع الذاكرة، تنبثق "قرية الأرامل" كمشهدٍ يختصر شدّة الحرب وثقل الوحدة معاً. المكان ليس مخيماً فحسب، بل مساحة تتجاور فيها حكايات فقدٍ متشابهة، ووجوهٌ أنهكتها السنوات الأخيرة أكثر مما أنهكتها الحياة كلها. هنا تعيش النساء اللواتي خسرن أزواجهن وبُترت أحلامهن دفعة واحدة، يحاولن ترتيب حياتهنّ فوق أرضٍ لا تحمل إلا الرماد.
أنشئ هذا المخيم مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وافتتح رسمياً بعدها بقليل، في خطوة وُصفت بأنها استجابة مباشرة للظروف الإنسانية المتفاقمة، وجاءت فكرة إنشاء المخيم نتيجة الاحتكاك اليومي بالنازحات، ولا سيما الأرامل منهن، اللواتي فقدن خصوصيتهن داخل مراكز الإيواء المختلطة.
الطمأنينة الممكنة
سلسبيل، وهي أم لثلاثة أطفال، تعيش منذ عام استشهاد زوجها في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 على وقع مسؤوليات تثقل كتفيها. فقدت شريك حياتها خلال اقتحام الاحتلال لمخيم جباليا، ومنذ تلك اللحظة وجدت نفسها تعيل يامن (10 سنوات)، ويوسف (7 سنوات)، وسلمى (3 سنوات)، بلا أي مصدر دخل، وتحاول أن تبني لهم ما يشبه حياة مستقرة في زمن يفتقد كل مقوماتها.
وإذ تسترجع تفاصيل رحلتها بين الملاجئ، تؤكد أنّ انتقالها إلى مخيم مخصص للنساء أتاح لها مساحة من الراحة والخصوصية لم تعرفها من قبل. وتشدد على أنها لم تعد مضطرة لارتداء لباس الصلاة على مدار اليوم كما كانت تفعل في المخيمات المختلطة، وتشير إلى أن قدرتها على الحديث داخل خيمتها بدون خفض صوتها منحتها شعوراً بالطمأنينة، بعدما كانت كل كلمة تُقال بحذر بسبب وجود الرجال على مقربة.
وتبين سلسبيل أن هذا المخيم خلق بين النساء رابطاً غير مرئي، يجمعهن في فئة واحدة تواجه الألم ذاته. وتضيف أنّ وحدة المعاناة جعلت التعامل مع مشاق الحياة اليومية أقل قسوة؛ فالجميع هنا يواجه صعوبة تأمين الطعام، وجلب الماء، والبحث عن أي مصدر دخل، لكن وعيهن بأن كل واحدة تعيش ما تعيشه الأخرى يجعل العبء أقل وطأة، وكأن التضامن بينهن صار الدرع الأخيرة التي تحمي ما تبقى من يومهن.
تبدو حكايتها جزءاً من مشهد أوسع، مشهد تُرمِّم فيه النساء هشاشة الأيام بعزيمة لا تخفت، ويحوّلن الألم المشترك إلى قوة تتيح لهن الاستمرار برغم كل ما فقدنه.
يقع المخيم في قلب حي الشيخ رضوان بمدينة غزة كمجتمع صغير مستقل، جرى بناؤه على هيئة ثمانين خيمة تنتظم حول مرافق خدماتية وُضعت لتأمين الحدّ الأدنى من احتياجات النساء. وفي كل صباح تُوزَّع المياه والطعام على الأرامل وأطفالهن ضمن نظام ثابت، بينما حرصت إدارة المكان على إنشاء مساحة منفصلة تُخصَّص فقط لزيارة أقارب النساء من الرجال.
ويُسمح لعدد محدود جداً من العاملين بدخول موقع المخيم لتقديم الخدمات الأساسية، في محاولة للحفاظ على البيئة الآمنة والخصوصية التي تشكّل جوهر هذا المخيم.
الحاجة للمساحة الخاصة
من جانبها تؤكّد آمنة البطش، أنّ العامين الماضيين شكّلا مرحلة بالغة القسوة، إذ وجدَت نفسها معلّقة بين واقع النزوح والتنقّل بين المخيمات والمدارس، وبين غيابٍ شبه كامل للخصوصية وأي وسيلة تتيح لها الحدّ الأدنى من الراحة.
وتشدّد البطش على أنّ وجود مساحة مخصّصة للنساء ليس ترفاً، بل ضرورة تمليها الاحتياجات اليومية التي لا يمكن تلبيتها داخل الخيام العامة، موضحةً أنّ المخيم الحالي ـكونه مخصّصاً للنساء فقط أعاد إليهن جزءاً كبيراً من الأمان والطمأنينة اللذين فُقدا طوال عامين من الاضطراب.
كما تبيّن أنّ انتقالها للعيش في هذا المخيم لم يكن مجرد قرار سكني، بل خطوة فارقة دفعتها إلى ترك أهل زوجها بحثاً عن بيئة أكثر تنظيماً، مضيفةً أنّ النظام المتّبع داخل المخيم جديد كلياً مقارنة بباقي المخيمات، إذ يوفر مستوى واضحاً من الترتيب ووسائل الراحة التي لم تختبرها من قبل.
ولعلّ أبرز ما تلخّص به حديثها هو أنّ المرأة لا تحتاج فقط إلى خيمة تُؤويها، بل إلى مساحة تحترم خصوصيتها وتعيد إليها شعوراً بالحياة، مهما ضاقت الظروف وتعاظمت المحن.
مساحة آمنة
تستهل يسرى مهنا وهي أم لطفلين فقدت زوجها مع بدايات الحرب، روايتها بالتأكيد أنها عاشت أقسى أشكال المعاناة خلال عامين كاملين من النزوح والفقد، موضحةً أنها كثيراً ما وجدت نفسها بلا معيل، عاجزة عن توفير أبسط الاحتياجات لطفليها في لحظات كانت فيها الحياة أثقل من أن تُحتمل.
وتتابع مهنا، وقد أخذتها تنهيدة طويلة، لتبيّن أنّ شعورها اليوم مختلف تماماً، إذ وجدت أخيراً مكاناً يشبهها؛ فضاءً يضم نساء يتشاركن الوجع ذاته والظروف نفسها، فيمنحها قدراً من الانتماء والطمأنينة، خصوصاً أنها أرملة تعتني بطفلين في بيئة قاهرة تتطلب دعماً مضاعفاً.
وتعرب مهنا عن أملها بأن تحصل على كفالة لأطفالها، أو أن تتدخل المؤسسات الدولية لدعمها ودعم بقية الأرامل بمساعدات مالية منتظمة تتيح لهن الحفاظ على الحد الأدنى من الكرامة والاستقرار.
وبين هموم الواقع وثقل المسؤولية، تختتم مهنا حديثها بالتشديد على أنّ الأرملة في ظروف الحرب لا تبحث عن رفاهية، بل عن يدٍ تمتد لتخفيف العبء، ومساحة آمنة تستطيع فيها أن تعيد ترتيب شتات حياتها وحياة صغارها.
الكاتب: محمد المقيد - غزة