بين "الجمهورية و"الإمبراطورية" .. الانقسام العميق داخل اليمين الأميركي
الاشراق | متابعة.
بعد الموجة الحمراء التي كرّست تفوقًا حاسماً للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية، يشهد الحزب، وخصوصاً المجموعات الأقوى داخله انقساماً كبيراً، يتجلى في التناقض والاشتباك العلني بين المتحدثين في مؤتمر "نقطة تحوّل الولايات المتحدة". لقد شكّل هذا الحدث نهاية "الهدنة الأيديولوجية" داخل الحزب الجمهوري، وكشف الشرخ العميق بين تيار "القومية اليمينية" وتيار "الإمبراطورية" التقليدي.
وإذا كان الصراع على الأيديولوجيا وفكرة القومية أو الإمبراطورية هما المحددات الظاهرة لهذا الانقسام، فإن الصراع الاقتصادي والتباين حول فكرة "مَن يدفع الفاتورة"، قد يكون هو الأكثر ظهوراً من بين الأسباب التي تدفع إلى الصدام.
لفهم سخط القاعدة الشعبية لترامب، يجب النظر إلى الأرقام. تشير تقارير "مشروع تكلفة الحرب" إلى تدفق أكثر من 29 مليار دولار من الخزانة الأميركية لدعم المجهود الحربي الإسرائيلي (خلال الحرب الأخيرة بحسب جامعة براون)، في وقت يعاني الاقتصاد الداخلي تبعات التضخم الهيكلي، وفي وقت تزداد البطالة، ويعاني الأميركيون تآكل القدرة الشرائية وإحباط الأجيال الشابة الجديدة.
بالنسبة إلى منظري "اليمين الجديد"، لم يعد من الممكن الاستمرار في السياسة القديمة نفسها التي اتبعتها الإدارات السابقة، إذ تآكلت الطبقات الوسطى، وتمّ نقل الثروة والمعامل والصناعات إلى الخارج طمعاً بالربح. كذلك، لم يعد مقبولاً استخدام أموال دافعي الضرائب لتمويل حروب إسرائيل التي لا تنتهي في الشرق الأوسط.
أما تاريخياً، فلطالما كان اليمين أجنحة تتصادم فيما بينها على السيطرة على الحزب الجمهوري، فما يشهده الحزب الجمهوري اليوم ليس ظاهرة مستحدثة، وفي التاريخ أمثلة متعددة لأفكار "أميركا أولاً" التي يطرحها مناصرو ترامب حالياً، ومنها نذكر ما يلي:
أفكار تشارلز ليندبرغ (1940)
تستعير حركة ترامب روحها من "أميركا أولاً" التي قادها الطيار تشارلز ليندبرغ لمنع دخول أميركا الحرب العالمية الثانية. حينها، جاء نداء ليندبرغ: "أيها الأميركيون! استيقظوا!" ليحذّر من أن "جماعات ضغط أجنبية" تحاول جرّ البلاد إلى حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل.
ووفقاً لتصنيف بعض المؤرخين، تنتمي قاعدة ترامب إلى المدرسة "الجاكسونية" (نسبة إلى الرئيس أندرو جاكسون). هذه المدرسة هي عبارة عن تيار قومي، عنيف في الدفاع عن النفس، لكنه يرفض بشدة الحروب من أجل "بناء الأمم" أو حماية حلفاء أثرياء. بالنسبة إلى هؤلاء، القتال من أجل إسرائيل ليس دفاعاً عن الأمن القومي الأميركي، بل خدمة لمشروع "إمبراطوري" يتناقض مع فكرة "الجمهورية".
"جمهورية لا امبراطورية" – باتريك بوكانان
يمثل كتاب "جمهورية لا إمبراطورية" الذي صدر عام 1999 لباتريك بوكانان المانيفستو التأسيسي الذي يستند إليه جناح "أميركا أولاً" اليوم. حينها، اعتُبر الكتاب البرنامج الذي ترشح على أساسه بوكانان لانتخابات عام 2000 عن حزب الإصلاح. في هذا الكتاب، شخّص بوكانان مبكراً معضلة "التمدد الميؤوس منه" للسياسة الخارجية الأميركية، محذراً من تحوّل الولايات المتحدة من "جمهورية" تهتم بشؤونها الداخلية، كما أراد المؤسسون، إلى "إمبراطورية" غارقة في التزامات دولية ليبرالية.
دعا بوكانان إلى سحب القوات من أوروبا وآسيا، ورفض التورط في نزاعات لا تمس الأمن المباشر (مثل حروب الخليج أو البلقان)، منتقداً بشدة التحالفات الدائمة مثل "الناتو". كما ربط بين السيادة الوطنية والحمائية التجارية وتقييد الهجرة، معتبراً أن الانخراط في المؤسسات الأممية هو استنزاف للقدرة الأميركية. هذه الأطروحات، التي وُصفت حينها بـ «القومية المفرطة»، هي ذاتها التي تشكل اليوم العقيدة الأساسية لتيار "القومية اليمينية" داخل الحزب الجمهوري في مواجهة النخبة السياسية التقليدية.
والمفارقة أن دونالد ترامب (رجل الأعمال حينها) في ذلك الوقت وقف في خندق واحد مع جورج بوش الابن وتوماس فريدمان لإدانة بات بوكانان وكتابه، إذ وصف ترامب أفكار بوكانان بأنها "مقززة" و"شائنة"، وهاجمه علناً قبل ظهوره في برنامج "واجه الأمة"، متهماً إياه بمعاداة السامية وبالتطرف، رغم اعتراف ترامب حينها بأنه لم يقرأ الكتاب، بل "اطلع على بعض العبارات فقط".
والمفارقة الأكبر، أن ترامب الذي وصل إلى السلطة في 2016 و2024 بتبني أفكار بوكانان (الشعبوية، والحمائية، ورفض العولمة)، يجد نفسه الآن محاصراً من قبل "الأبناء الشرعيين" لأفكار بوكانان الذين يتهمونه بما اتهم هو به خصومه سابقاً: التضحية بمصالح الجمهورية من أجل تحالفات خارجية.
النتيجة، إن دروس التاريخ الأميركي واضحة، فالتحالفات المبنية على التناقضات لا تدوم طويلاً. ولعل الانقسام الذي شهده سابقاً الحزب الديمقراطي وانحياز قاعدة كبيرة منه وتحوّلها إلى "جناح تقدمي"، انتقل إلى الحزب الجمهوري الذي ينقسم على نفسه بين تيار القومية (الجمهورية) والتيار التدخلي (الإمبراطورية). وعلى هذا الأساس، يبدو أن الانتخابات النصفية عام 2026 ستكون موسم الانهيار الكبير للتحالف الذي حقق الموجة الحمراء في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
ليلى نقولا - أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً