"Responsible Statecraft".. هل للتفوّق العسكري الإسرائيلي مستقبل؟
الاشراق | متابعة.
مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً يناقش سياسة الولايات المتحدة في الحفاظ على "التفوّق العسكري النوعي لإسرائيل"، وكيف تؤثّر هذه السياسة في صفقات السلاح الأميركية لدول الشرق الأوسط، وفي توازنات الأمن الإقليمي عموماً.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
في 17 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أعلن الرئيس دونالد ترامب أنّه سيوافق على بيع طائرات "إف-35"، أكثر المقاتلات الأميركية تقدّماً، للسعودية. جاء هذا الإعلان قبل يوم واحد من زيارة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان إلى البيت الأبيض، والذي سعى لشراء 48 طائرة من هذا النوع في صفقة بمليارات الدولارات، من شأنها إحداث تغيير في موازين القوى العسكرية في الشرق الأوسط. وتُعدّ "إسرائيل" الدولة الوحيدة الأخرى في المنطقة التي تمتلك هذه الطائرة حالياً.
وخلال اجتماع في البيت الأبيض، اقترح ترامب أن تُجهَّز طائرات "إف-35" التي ستشتريها السعودية بتكنولوجيا مماثلة لتلك الموجودة لدى "إسرائيل". في المقابل، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى طلب الحصول على ضمانات من وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، الذي حاول التراجع عن إعلان ترامب، مؤكداً التزام الولايات المتحدة ومواصلة حرصها على الحفاظ على التفوّق العسكري النوعي الإسرائيلي في كل ما يتعلّق بتزويد دول الشرق الأوسط بالأسلحة والأنظمة العسكرية.
كما أنّ نهج إدارة ترامب تجاه التوازن العسكري في الشرق الأوسط لا يتحدّد فقط بالسياسة، بل أيضاً بمصالح الولايات المتحدة في الحفاظ على "الأفضلية العسكرية النوعية لإسرائيل". وقد وُضعت أسس هذه السياسة في الأصل قبل ما يقارب 45 عاماً، بوصفها وسيلة لضمان استقرار الشرق الأوسط عبر تكريس التفوّق العسكري الإسرائيلي على المنافسين الإقليميين، غير أنّ هذا التوجّه أفضى إلى حوافز منحرفة تمثّلت في دعم العمليات العسكرية الإسرائيلية واسعة النطاق، وتغذية سباقات التسلّح، وفي نهاية المطاف تقويض المصالح الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
أصول سياسة التفوق الإسرائيلي
بدأ الالتزام الرسمي الأميركي بحماية التفوّق الإسرائيلي يتبلور في سبعينيات القرن المنصرم. وقد جرى التعبير عنه لأول مرة بوصفه سياسة أميركية في عهد إدارة رونالد ريغان عام 1981، عندما أدلى وزير الخارجية آنذاك، ألكسندر هيغ، بشهادته أمام الكونغرس قائلاً إنّ "جانباً مركزياً من سياسة الولايات المتحدة منذ حرب 1973 كان ضمان الحفاظ على ميزة عسكرية نوعية". وقد جاء التحدي الأول لمنظومة التفوّق الإسرائيلي في العام نفسه، حين اقترحت إدارة ريغان تزويد السعودية بنظام الإنذار والسيطرة المحمولة جواً "أواكس"، وهو نظام رادار عسكري ومنظومة قيادة وسيطرة، في إطار أكبر صفقة أسلحة أجنبية في تاريخ الولايات المتحدة في ذلك الوقت.
وعقب معارضة واسعة من نواب أميركيين مؤيدين لـ"إسرائيل"، وكذلك من الحكومة الإسرائيلية، أكّد الرئيس رونالد ريغان للكونغرس أنّه لا يزال "ملتزماً تماماً بحماية أمن إسرائيل والحفاظ على قدرتها على الدفاع عن نفسها ضد أي مجموعة محتملة من القوى المعادية في المنطقة".
ولم يُعرَّف هذا الالتزام رسمياً في القانون الأميركي إلا عام 2008، حين جرى تحديده باعتباره دعماً لقدرة "إسرائيل" على مواجهة وهزيمة أي تهديد عسكري تقليدي موثوق، سواء من دولة منفردة أو تحالف محتمل من عدة دول أو من جهات غير حكومية، مع تحمّل أضرار وخسائر محدودة، وذلك من خلال استخدام وسائل عسكرية متفوّقة ومتوافرة بكميات كافية. وتشمل هذه الوسائل القدرات العسكرية، والقيادة، والسيطرة، والاتصالات، والاستخبارات، والمراقبة، والاستطلاع، على أن تتفوّق في خصائصها التقنية على تلك التي تمتلكها الدول أو التحالفات المحتملة أو الجهات غير الحكومية المعادية.
كما ألزم قانون "نقل السفن البحرية" الحكومة الأميركية بإجراء تقييم كل أربع سنوات للتفوّق النوعي لـ"إسرائيل"، وعدّل قانون مراقبة تصدير الأسلحة لعام 1976 ليشترط ألّا يؤثر أي نقل كبير للأسلحة الأميركية إلى دول أخرى في الشرق الأوسط سلباً في التفوّق النوعي الإسرائيلي.
وأضافت تعديلات عام 2014 إلى هذا القانون ما يوجب على الإدارة الأميركية أيضاً المساهمة في تعزيز قدرة "إسرائيل" على التعامل مع الإمكانات المحسّنة التي قد توفّرها هذه الأسلحة لتلك الدول. ووفقاً للتعريف الأصلي، فإن الحفاظ على الأفضلية النوعية يتطلّب أن تظل "إسرائيل" قادرة على هزيمة التهديدات العسكرية التقليدية الموثوقة، سواء صدرت عن دول أو عن جهات غير حكومية.
تقييم الجودة
منذ عام 2008، باتت وزارة الخارجية الأميركية مسؤولة عن ضمان التزام مقترحات نقل الأسلحة إلى الشرق الأوسط بالمتطلبات القانونية الرامية إلى الحفاظ على التفوّق العسكري النوعي الإسرائيلي، وذلك في إطار عملية مراجعة صفقات نقل السلاح. وتعرّف الوزارة المنطقة المعنية بأنها الدول الواقعة ضمن نطاق إشراف مكتب شؤون الشرق الأدنى، الممتد من المغرب إلى إيران، ولكن، وبما أنّ إيران غير مؤهلة للحصول على أسلحة أميركية منذ ثورة عام 1979، فإن هذا التشريع ينطبق عملياً على العالم العربي فقط.
ويجب أن يتضمن إشعار السلطة التنفيذية الموجّه إلى الكونغرس بشأن أي صفقة نقل أسلحة كبيرة مقترحة إلى المنطقة تحليلاً سرياً يعدّه مهندس عسكري بوصفه جزءاً من الوثائق الرسمية. كما أنّ العملية التحليلية نفسها، والآليات المعتمدة في تناولها ضمن المسار السياسي، مصنّفة أيضاً، إلا أنّها وُصفت بأنها تشمل "مدخلات من وزارة الخارجية، ووكالة التعاون الأمني الدفاعي، وهيئة الأركان المشتركة، ومجتمع الاستخبارات الدفاعية، وغيرها". وخلال الاجتماع السنوي لمجموعة السياسة العسكرية المشتركة في وزارة الدفاع، يقدّم الإسرائيليون عادة عرضاً يتضمن قائمة بالأنظمة التي يعتبرونها تهديداً لمنظومة التفوّق العسكري النوعي الإسرائيلي.
وعند النظر في مقترحات مبيعات الأسلحة إلى المنطقة التي قد تشكّل تحدّياً لـ"الأفضلية العسكرية الإسرائيلية"، تمتلك الحكومة الأميركية ثلاثة خيارات. يبدأ الخيار الأول بتزويد "إسرائيل" بقدرات عسكرية إضافية لضمان بقائها في موقع الصدارة. على سبيل المثال، عندما اقترحت إدارة أوباما عام 2013 بيع طائرات "إف-16" المقاتلة لدولة الإمارات العربية المتحدة، اقترحت في الوقت ذاته تزويد "إسرائيل" برادارات متقدمة قادرة على رصد طائرات "إف-16" من مسافات بعيدة، غير أنّ تحقيق توازن عبر نقل الأسلحة من خلال تعزيز القدرات الدفاعية الإسرائيلية البحتة يظل أمراً بالغ الصعوبة، إذ إن التمييز بين الأنظمة الدفاعية والهجومية غالباً ما يعتمد على السياق والنيات. وإذا ما دفعت القدرات الجديدة التي تحصل عليها "إسرائيل" دولاً إقليمية أخرى إلى تحديث أنظمتها، فإن قاعدة التفوّق الإسرائيلي قد تسهم في تأجيج سباق تسلّح في الشرق الأوسط.
وينصّ البند 36 من قانون مراقبة تصدير الأسلحة الأميركي، الذي سبق تقنين مفهوم التفوّق العسكري النوعي الإسرائيلي، على ضرورة أن يتضمن كل اقتراح لتصدير السلاح تحليلاً لإمكاناته في المساهمة في سباق تسلّح. كما تؤكد الفقرة الافتتاحية من القانون نفسه أنّ "سياسة الولايات المتحدة ينبغي أن تثبّط سباقات التسلّح". وبناءً على ذلك، إذا كانت صفقات الأسلحة المرتبطة بالحفاظ على التفوّق الإسرائيلي قد تؤدي فعلياً إلى سباقات تسلّح، فقد تكون في تعارض مباشر مع القانون الأميركي.
أما الخيار الثاني، فيتمثّل في فرض قيود على عملية البيع. وقد تكون هذه القيود كمية، تحدّد عدد القطع العسكرية المنقولة إلى دولة عربية، أو جغرافية، بناءً على عوامل مثل موقع الدولة المستلمة أو قربها من "إسرائيل"، أو تكنولوجية، بما يضمن حصول "إسرائيل" على نسخ أكثر تقدّماً من القدرات العسكرية نفسها. والخيار الثالث هو رفض الصفقة المقترحة بالكامل من أجل الحفاظ على التفوّق النوعي الإسرائيلي، رغم أن هذا الخيار قد لا يكون مواتياً دائماً لمصالح واشنطن.
وغالباً ما يجادل لوبي تصدير الأسلحة الأميركي بأن من الأفضل لواشنطن أن تقوم هي بتزويد الأسلحة، ولو مع فرض قيود على استخدامها، بدلاً من ترك الدول ذات السجلات الضعيفة في مجال حقوق الإنسان تلجأ إلى منافسي الولايات المتحدة، غير أنّ المتطلبات القانونية الخاصة بالحفاظ على التفوّق العسكري الإسرائيلي تعني أنّ رفض مبيعات الأسلحة إلى الدول العربية قد يكون أحياناً الخيار الوحيد المتاح.
وفي مثل هذه الحالات، قد تلجأ الحكومات العربية إلى أطراف ثالثة للحصول على القدرات الدفاعية التي تراها ضرورية لمواجهة مخاوفها الأمنية، وخصوصاً في مواجهة خصوم الولايات المتحدة مثل إيران. ومن منظور واشنطن، فإن الإصرار على الحفاظ على التفوّق الإسرائيلي قد يخلق حوافز منحرفة تدفع شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى تحويل سلاسل التوريد الدفاعية نحو دول مثل الصين أو روسيا، التي لا تخضع لهذه القيود.
الآثار الإقليمية
يفرض الالتزام القانوني بسياسة التفوّق العسكري النوعي الإسرائيلي قيوداً صارمة على نقل الأسلحة الأميركية إلى جميع الدول العربية، بما يحدّ من تطوّر التكنولوجيا العسكرية المتاحة لها ومن كميات الإمدادات. وينطبق معيار التفوّق العسكري النوعي على مختلف أصناف المعدات الدفاعية الأميركية المخصّصة للمنطقة، بما في ذلك الأنظمة الجاهزة للنشر والاستخدام الكامل، مثل الطائرات والدبابات، فضلاً عن المكوّنات الفرعية المدمجة في أنظمة تنتجها دول أخرى لعملاء في الشرق الأوسط. وعندما تتفوّق الأنظمة الدفاعية الأميركية على نظيراتها الأجنبية، تتمكّن الحكومة الأميركية، عملياً، من تحديد سقف لمستويات التكنولوجيا وكمياتها التي يُسمح للدول العربية بالحصول عليها.
وبناءً على ذلك، يمنح التفوّق التكنولوجي العسكري الأميركي الولايات المتحدة نفوذاً كبيراً على الدول العربية، غير أنّ هذا النفوذ قد يتراجع إذا فقدت الولايات المتحدة تفوّقها في مجال التكنولوجيا العسكرية، أو إذا جرى استبعاد المعدات الأميركية تدريجياً من منظومات تسليح الشركاء. كما أنّ القيود الأميركية على نقل الأسلحة قد تخلق حوافز لدى الدول العربية للتوجّه نحو مورّدين بديلين، مثل الصين أو فرنسا، للحصول على بعض الأنظمة العسكرية المتقدّمة.
ويثير مفهوم التفوّق العسكري النوعي قلقاً أوسع نطاقاً، ولا سيما لجهة تأثيره في السياسة الخارجية والأمنية الإسرائيلية، فما دامت "إسرائيل" مطمئنة إلى أنّ الولايات المتحدة ستواصل مساعدتها في الحفاظ على تفوّقها العسكري على مستوى المنطقة بأسرها، فقد تميل إلى الاعتماد على هذا التفوّق بديلاً من اللجوء إلى الدبلوماسية، غير أنّ اعتماد "إسرائيل" المستمر على القوة العسكرية في معالجة الصراعات السياسية الإقليمية يسهم، بلا شك، في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط ككل. وفي هذا السياق، قد يُسهم مفهوم التفوّق العسكري النوعي، من دون قصد، في تغذية ديناميكيات عدم الاستقرار الإقليمي، وفي تأجيج التهديدات نفسها التي يُفترض أن يحدّ من حدّتها بالنسبة إلى "إسرائيل".
هل للتفوّق الإسرائيلي مستقبل؟
قد يُضعف التحسّن الملحوظ في آفاق الأمن الإقليمي، الذي وعدت به "اتفاقيات أبراهام"، الحاجة المُلحّة للولايات المتحدة إلى ضمان التفوّق العسكري النوعي الإسرائيلي، لكن يبرز هنا سؤال جوهري: هل تحتاج "إسرائيل" فعلاً إلى هذا التفوّق على دول تربطها بها علاقات دبلوماسية وتجارية ودّية؟ للمفارقة، طرح مسؤولون إسرائيليون هذا الرأي بأنفسهم، إذ قالوا، على سبيل المثال، في سياق صفقة بيع طائرات "إف-35" المقترحة للإمارات العربية المتحدة: "نعتقد أن الإمارات حليف لنا في مواجهة إيران، ولا نعتقد أن هذه الصفقة ستخالف التزام الولايات المتحدة"، غير أنّ هذه التصريحات العلنية لا تُغني عن المتطلبات القانونية الأساسية. ووفقاً للتجربة، عارضت جهات مؤيّدة للحفاظ على التفوّق العسكري النوعي الإسرائيلي، مثل لجنة الشؤون العامة الأميركية–الإسرائيلية ("أيباك")، مثل هذه الصفقات مع الدول العربية في جلسات مغلقة.
وقد تؤدي المقترحات الرامية إلى توسيع تعريف التفوّق العسكري النوعي ليشمل تركيا، بوصفها دولة يتعيّن على "إسرائيل" الحفاظ على تفوّق عسكري نوعي عليها، إلى تعقيدات إضافية، من خلال إعطاء الأولوية للدفاع عن "إسرائيل" على حساب الدفاع عن دولة عضو في حلف "الناتو". كما أنّ مفهوم تحمّل الولايات المتحدة مسؤولية التفوّق العسكري النوعي لدولة أخرى يُرسّي سابقة مقلقة، سعى بعض المحللين الأميركيين في السنوات الأخيرة إلى تعميمها في سياقات أخرى، كما في حالة اليونان في مواجهة تركيا، أو الهند في مواجهة الصين. وبغضّ النظر عن السياق الإسرائيلي، فإن توسيع نطاق مفهوم التفوّق العسكري النوعي من شأنه، على الأرجح، أن يُؤجّج سباقات التسلّح.
ويرى محللون عسكريون أنّ العالم يقف على أعتاب ثورة عسكرية جديدة، تتّسم بانتشار أنظمة أسلحة منخفضة الكلفة وقادرة على تحييد التفوّق التكنولوجي المتقدّم. وإذا صحّ هذا التقدير، فإنه يشير إلى أنّ التفوّق العسكري النوعي الإسرائيلي غير مرشّح لأن يكون سمة دائمة في التوازن العسكري للشرق الأوسط. وفي هذا السياق، قد يكون من الحكمة أن يبحث صانعو القرار في واشنطن وتل أبيب عن بدائل للهيمنة العسكرية الإسرائيلية، وما تفرضه من هشاشة بنيوية على المنطقة.
الدبلوماسية والتسوية، بما في ذلك ضرورة إحراز تقدّم حقيقي في قضية تقرير المصير الفلسطيني، تمثّل الطريق الواقعي الوحيد للخروج من العزلة التي أسهم التفوّق العسكري النوعي الإسرائيلي في فرضها على "إسرائيل" نفسها. وإذا أرادت "إسرائيل" التراجع عن استخدام القوة العسكرية بوصفها الخيار الأوّل، فعليها بدايةً أن تُدرك أنّ تفوّقها العسكري الراهن ليس دائماً، وأنّ الدبلوماسية تظلّ البديل الوحيد القابل للتطبيق لمسار عدم الاستقرار وسباق التسلّح القائم.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.