"The Dispatch" .. الموت يحلّ بولاية نيويورك!

الاشراق | متابعة.

موقع "The Dispatch" ينشر تقريراً يتناول قرار ولاية نيويورك تشريع "الموت الرحيم" (المساعدة الطبية على الموت – MAiD) وما أثاره من جدل أخلاقي وطبي وسياسي واجتماعي واسع. 

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

تلقّى سكان نيويورك هدية مشبوهة الأسبوع الفائت عندما أعلنت الحاكمة كاثي هوكول أنها ستوقّع مشروع قانون يُشرّع الموت الرحيم (المعروف أيضاً باسم "المساعدة الطبية على الموت" أو "MAiD"). وابتداءً من هذا الصيف، سيتمكّن سكان نيويورك الذين أخبرهم الطبيب أنّ أمامهم 6 أشهر أو أقل للعيش من طلب وصفات طبية قاتلة، يمكنهم تناولها بأنفسهم في الوقت والمكان اللذين يختارونهما.

كانت رحلة نيويورك لتصبح الولاية الـ13 التي تُشرّع الموت الرحيم طويلة. فبعد طرح مشروع قانون "المساعدة الطبية على الموت" للمرّة الأولى عام 2015، لم يُقرّه مجلس النواب حتى العام الماضي. وبعد أنّ أقرّه مجلس الشيوخ بصعوبة في حزيران/يونيو، ظلّ مشروع القانون ينتظر توقيع الحاكمة لأشهر، وسط مخاوف المعارضين والمؤيّدين من دلالة هذا التأخير.

وصرّحت هوكول خلال مؤتمر صحفي بأنّ توقيع مشروع القانون كان "من أصعب القرارات التي اتخذتها بصفتها حاكمة"، مُقرّةً بمخاوف الكثير من ناخبيها بشأن التأثير الذي يمكن أن يحدثه مشروع القانون على الفئات الأكثر ضعفاً. وبصيغته الأصلية، كان مشروع القانون سيجعل قانون نيويورك بشأن المساعدة على الانتحار من أكثر القوانين تساهلاً في البلاد، إذ لا يشترط فترة انتظار بين طلب المساعدة والحصول على الأدوية القاتلة، ولا يُلزم بإجراء فحص للاكتئاب، ويفرض شروط إبلاغ محدودة. كما أنّ توقيع هوكول مشروط بإقرار تعديلات تهدف إلى تشديد المتطلّبات ومنع إساءة الاستخدام. ولكن حتى مع وجود هذه الضوابط، فإنّ قرار إجازة الانتحار المتعمّد وتشريع إجراء وصفته الجمعية الطبية الأميركية هذا الصيف بأنه "يتعارض جوهرياً مع دور الطبيب كمعالج"، يُعدّ نقطة تحوّل.

ويُعدّ قرار هوكول بمثابة ضربة قاسية لكلّ من يؤمن بحرمة الحياة في نيويورك. وقد ردّ أساقفة نيويورك الكاثوليك والكاردينال تيموثي دولان (رئيس أساقفة نيويورك من عام 2009 حتى تقاعده الأسبوع المنصرم) ببيانٍ أكّدوا فيه مجدّداً أنّ الانتحار بمساعدة الطبيب "شرّ أخلاقيٌّ جسيم"، وأشاروا إلى أنّ إقرار مشروع القانون يُقوّض جهود هوكول الأخرى لمكافحة الانتحار. كذلك مارس عدد كبير من القادة اليهود ضغوطاً لمنع إقرار مشروع القانون، ويبدو أنّ المعارضة الدينية دفعت هوكول، وهي كاثوليكية، إلى الردّ بلغة دينية: "لقد تعلّمت أنّ الله رحيم وعطوف، وعلينا أن نكون كذلك. وهذا يشمل إتاحة خيار الرحمة لأولئك الذين يواجهون ما لا يمكن تصوّره ويبحثون عن الراحة في أشهرهم الأخيرة في هذه الحياة".

لكنّ الرحمة ليست ما يراه الكثيرون في الانتحار بمساعدة الطبيب. وتقول شارون شابيرو-لاكس، عضو مجلس إدارة مركز بروكلين للاستقلال لذوي الإعاقة، وهي نفسها من ذوي الإعاقة، في مقابلة: "لم تفهم كاثي هوكول من أين ينحدر مجتمع ذوي الإعاقة، ولم تستوعب أنّ هذه ليست قضية دينية، وأننا نعترض على المشكلة النظامية المتمثّلة في أن يتخذ الأطباء قراراً بشأن من لديه سبب منطقي لإنهاء حياته قبل الأوان".

وعلى الرغم من أنّ الألم الشديد يُستخدم غالباً كذريعة لتشريع الموت الرحيم - وهو بالفعل أحد الأسباب التي تدفع بعض المرضى إلى طلبه - فإنّ الكثير من طلبات الجرعات القاتلة تصدر أيضاً من أولئك الذين يخشون فقدان استقلاليتهم. فما يخشاه الكثيرون في مجتمع ذوي الإعاقة هو عالم يُنظر فيه إلى فقدان الاستقلالية على أنه سبب وجيه للموت. وتقول شابيرو-لاكس، التي تناضل من أجل حقوق ذوي الإعاقة منذ أكثر من 40 عاماً: "يخشى الناس فقدان قدراتهم أكثر من خشيتهم الألم. طوال حياتي، كنت أسمع عبارات مثل: ’يا إلهي، أنتِ رائعة، لا أستطيع العيش مثلك‘. ’لو اضطررتُ للجلوس على كرسي متحرّك، لا أعرف ماذا كنت سأفعل‘. لطالما أزعجني هذا الكلام، لأنّ هذا النوع من التشجيع هو مجاملة مبطّنة. وما تعنيه في الواقع هو: ’ما كنتُ لأعيش لو كنت مكانكِ‘".

وبحسب شابيرو-لاكس، فإنّ قرار إنهاء الحياة بسبب مرض عضال ليس قراراً حرّاً ما لم تتوفّر للشخص خيارات دعم متنوّعة لما تبقّى من حياته. وفي الوقت الذي تشهد نيويورك نقصاً في مقدّمي الرعاية، وانهياراً في برنامج الرعاية المنزلية الحكومي، وتشديداً على وصفات الأدوية الأفيونية لتخفيف الآلام المزمنة، وانخفاضاً حاداً في استخدام برنامج الرعاية الصحية الحكومي (Medicare) لخدمات الرعاية التلطيفية، تكاد أساسيات الرعاية الداعمة في نهاية الحياة تكون معدومة.

ويخشى بعض الأطباء من أنّ هيكل النظام الطبي الحالي لن يشجّع على تقديم رعاية دقيقة ومتأنية للمرضى الذين يعانون من اضطراب. وقالت الدكتورة ليديا دوغديل، الطبيبة وخبيرة الأخلاقيات في جامعة كولومبيا:"هناك خطر حقيقي يتمثّل في إجبار عدد كبير من مرضانا على الموت. إنّ الدافع الأول في الطب هو الكفاءة، وهذا لن يترك مجالاً كافياً لتقييم الصحة النفسية للمريض بشكل صحيح أو لمعالجة قلقه من الموت".

من جانبها، قالت جيسيكا رودجرز، مديرة التحالفات في صندوق عمل حقوق المرضى، وهي منظمة وطنية غير ربحية تُناهض الانتحار بمساعدة طبية، إنّ من يثقون بالضوابط المقترحة لمنع إساءة استخدام هذا المشروع، عليهم أن ينظروا إلى ما حدث في ولايات أخرى. "ففي كلّ ولاية يُقرّ فيها الانتحار بمساعدة طبية، يكمن العمل في تنظيم الجهود لمكافحة توسيع نطاقه". وقد رفعت منظمة "كومباشن آند تشويسز"  (Compassion and Choices)، وهي منظمة غير ربحية مموّلة جيداً وتدافع عن الموت الرحيم، دعاوى قضائية ضدّ عدد من الولايات لإلغاء شروط الإقامة، وقد تراجع عدد منها بهدوء عن هذه الشروط في وقت لاحق. وألغت ولايتا أوريغون وفيرمونت شروط الإقامة لديهما. وفي عام 2023، خفّضت ولاية واشنطن فترة الانتظار لديها، ووسّعت قائمة الأشخاص المؤهّلين لوصف الجرعات القاتلة لتشمل الممرّضين الممارسين ومساعدي الأطباء. وفي ولاية فيرمونت، جرت محاولة للسماح للمختصين في الطب البديل بتقديم المساعدة على الانتحار، إلا أنها لم تُكلّل بالنجاح حتى الآن. أما ولاية كاليفورنيا، فقد خفّضت فترة الانتظار لديها من 15 يوماً إلى 48 ساعة.

وتضيف رودجرز: "المستقبل يكمن في التقاضي". وتوافقها شابيرو-لاكس الرأي قائلةً: "علينا أن نبذل قصارى جهدنا لوضع المزيد من الضوابط حول هذا الأمر ومنع انهيار الضوابط القائمة. وسنكون في غاية اليقظة حيال ذلك. كما أننا بحاجة إلى توعية الناس بقيمتهم الذاتية وكيف يمكنهم عيش حياة ذات معنى، مع توفير الدعم والتكنولوجيا وتسكين الألم في ظل تراجع قدراتهم تدريجياً".

ولا يزال غير واضح مدى الدعم الذي سيحظى به مناهضو الانتحار في نيويورك. ويعارض السكان السود واللاتينيون بشدة الانتحار بمساعدة طبية، وقد أشار رئيس التجمّع التشريعي للسود والبورتوريكيين واللاتينيين والآسيويين في ولاية نيويورك بأنّ مشروع القانون "يستهدف المجتمعات العرقية الضعيفة". ويبدو أنّ هوكول قد تجاهلت هذه الأصوات، إلى جانب أصوات ذوي الإعاقة، وإن كان ذلك بعد تأخير يُعزّز ادّعاءها بأنها وجدت القرار صعباً. ويبدو مستبعداً أن تكون موافقتها قد حصدت تأييداً سياسياً كبيراً، فعلى الرغم من تأييد غالبية سكان نيويورك الموت الرحيم، إلا أنها ليست قضية انتخابية مصيرية ولم يمرّ مشروع القانون إلا بفارق ضئيل في المجلس التشريعي، حيث صوّت أكثر من 20 ديمقراطياً ضده في كل مجلس. ولعلّ قصة إقرار هذا القانون تُعدّ قصة انتصار أقلية صغيرة لكنها مؤثّرة من النشطاء المتحمّسين بفضل إصرارهم. 

ومع تعيين أساقفة جدد في ولاية ألباني وأبرشية نيويورك، تتاح للكنيسة الكاثوليكية في الولاية فرصة لتقديم ردّ فعل جديد. فهل ستركّز القيادة الجديدة على قضايا إنهاء الحياة بقدر تركيزها نفسه على الإجهاض؟ وهل ستكون هناك عواقب على المشرّعين الكاثوليك الذين صوّتوا لصالح ما تعتبره الكنيسة آفة خطيرة؟ وهل سيكون للشباب ردّ فعل عند رؤية أجدادهم ينهون حياتهم؟ وهل ستسود الطبيعة الأورويلية للغة جماعات الضغط المؤيّدة للانتحار، بدءاً من الاختصار الملطّف MAiD؟ تقول هوكول إنّ الانتحار بمساعدة طبية "لا يتعلّق بتقصير الحياة، بل بتقصير الموت". وتشير منظمة "كومباشن آند تشويسز" (Compassion and Choices) إلى أنه يتعيّن على هوكول "القيادة بحبّ" لتمرير مشروع القانون، واصفةً إياه بأنه وسيلة "لإنهاء المعاناة".

لكنّ زيف هذا الخطاب كان واضحاً في الأسبوع الأول من كانون الأول/ديسمبر، حين احتشد المئات في نيويورك وألباني وبافالو في وقفات احتجاجية على أمل إقناع الحاكمة برفض مشروع القانون. ووقف المتظاهرون في مانهاتن، في درجات حرارة متجمّدة، حاملين الشموع، وسط صخب المتسوّقين وروّاد الحفلات في موسم الأعياد. ورفع كثيرون لافتات كُتب عليها: "يبقى انتحاراً في النهاية".