من يملك الحق في تعريف العالمية؟

الاشراق | متابعة.

يتحوّل مفهوم الهيمنة الثقافية الأوروبية – الأميركية اليوم من بعده المرتبط بتفوّق جمالي مزعوم، إلى فهمه كترتيب تاريخي لمفاصل الإنتاج والتوزيع والاعتراف، ومن يملك الاستوديوهات وشبكات التوزيع، ومن يحدّد معايير الجوائز والنقد والترجمة، ومن يسيطر على المنصات والبيانات.

هذا ما تشرحه أدبيات "النظام العالمي للثقافة" في الأدب خصوصاً. فالترجمة تعمل وفق منطق مركز/أطراف، حيث احتلت الإنكليزية موقعاً فوق - مركزي في اقتصاد الاعتراف العالمي، بينما ظلت لغات كثيرة رهينة المرور عبر بوابات المركز لكي ترى وتقرأ. 

وقد أطلق العقدان الأخيران مساراً مختلفاً، إذ لم يعد "الانتشار" مرادفاً حصرياً لمرور الأعمال عبر نيويورك، لندن أو باريس، أو حتى عبر هوليوود. صار بإمكان عمل كوري، هندي، نيجيري أو مكسيكي، أن يفرض نفسه عبر اقتصاد المنصات، وتحوّلات التمويل، وتبدّل جغرافيا الاستهلاك، وصعود طبقات وسطى واسعة خارج الغرب، ثمّ الأهمّ، تغيّر شكل الوسيط نفسه الذي أبعد السينما كصالة، وحوّل المحتوى إلى تيار من البيانات التي تجد طريقها، أو طرقها وطرقتها، ليس إلى المتلقّي، بل إلى المتفاعل. كيف يحدث ذلك؟

السينما: من الاستوديو إلى السوق - المنصة
تاريخياً، احتكرت هوليوود الجزء الأعظم من "قواعد اللعبة". تحكّمت بها وصاغتها ورفعت نجوماً ومنتجات وأسقطت آخرين. أتقنت هوليوود لعبة رأس المال الكبير، التوزيع العالمي، والقدرة على صناعة نجومية كونية. لكنّ نمو الصناعات السينائية في الجنوب العالمي تجاوز الهوامش، ودخل قلب الحدث الثقافي - السينمائي العالمي.

في أفريقيا مثلاً، تقدّم تقارير "اليونيسكو" خريطة مفصّلة للصناعات السينمائية/السمعية البصرية في القارة، وتقدّر مساهمتها الاقتصادية وفرص العمل، مع تشخيص واضح لاختناقات التمويل والتوزيع والبنية التحتية، أي أنها صناعة موجودة بحجم حقيقي وتحتاج إلى تحويل القدرة الإنتاجية إلى قيمة مضافة عبر سلاسل التوزيع وحقوق الملكيّة.

وفي قلب أفريقيا، نيجيريا تحديداً، تظهر ظاهرة "نوليوود" كاستثناء كاشف. حيث الإنتاج وفير مع نموذج تكلفة منخفضة، ثمّ انتقال تدريجي إلى تحسين الجودة والتمويل مع دخول المنصات الرقمية واهتمامها بالمحتوى المحلي الأفريقي، بما حوّل الصناعة من سوق توزيع محلي - إقليمي إلى فضاء مشاهدة عابر للحدود. ولا تكمن أهمية الحالة هنا في عدد الأفلام فقط، بل في أنّ المنصات حين تموّل وتروّج، تخلق جسراً جديداً للانتشار لا يمرّ بالضرورة عبر هوليوود.

أما في آسيا، فالمعادلة أكثر حدة وبروزاً، حيث إننا نكون أمام مراكز إنتاج ضخمة (الهند، كوريا الجنوبية، الصين، اليابان…) وأمام سوق إعلاني- اشتراكي هائل، وأمام استثمارات متنامية في المحتوى. تقارير الصناعة في آسيا - المحيط الهادئ تظهر نمو الاستثمار في المحتوى عبر أسواق متعدّدة، بما يعكس انتقال المحرّك من استيراد المحتوى الغربي إلى إنتاج محلي منافس.

وفي كوريا الجنوبية، تتجسّد ظاهرة التحوّل بوضوح عبر دور المنصات العالمية في تمويل المحتوى المحلي وتصديره؛ وتغطي تحليلات صحافية - اقتصادية متخصّصة طبيعة الاستثمار طويل الأجل في المحتوى الكوري، وما يخلقه من فرص وتوترات داخل المنظومة المحلية.

في السينما، لم تعد القوة حكراً على من ينتج أكثر أو أجمل، بل زاد حضور من يمتلك قنوات الوصول إلى الجمهور، التي باتت رقميّة، قابلة للتدويل السريع، ومفتوحة أمام قوى جديدة.

الأدب: فتح منافذ الاعتراف عبر الترجمة والجوائز
في الأدب، كانت المركزية الغربية أشدّ رسوخاً لأنّ الهيمنة هنا رمزية، تعبّر عنها جوائز، جامعات، نقد، ووسائط نشر وترجمة تحدّد ما يستحقّ أن يقرأ بوصفه أدباً عالمياً. أطروحة باسكال كازانوفا عن "جمهورية الأدب العالمية" تعرّي هذا النظام، وتكشف وجود اقتصاد هيمنة ناعم يجعل بعض اللغات والفضاءات مصدراً للشرعية، ويجعل الآخر محتاجاً للاعتراف المقبل من المركز. لكنّ التوازن يتحرّك من نافذتين متداخلتين، الترجمة كسياسة قوة، والجوائز بوصفها ممرات بديلة.

أعمال يوهان هايلبرون تشرح بنية النظام العالمي للترجمة بوصفه بنيةً هرمية؛ حيث الإنكليزية "فوق - مركز"، ثم لغات مركزية كالفرنسية والألمانية، ثم محيط واسع من اللغات الأقلّ نفوذاً. هذه البنية بدأت تتعرّض لضغوط مع توسّع الطلب العالمي على أدب غير غربي، ومع نمو برامج الدعم والترجمة وشبكات الوكلاء ودور النشر المستقلة.

أما في الجوائز، فقد باتت "جائزة البوكر الدولية" مثلاً منصة مؤسسية للاعتراف بالأدب المترجم، مع إبراز المترجم بوصفه شريكاً في إنتاج المعنى، ما يرفع قابلية انتقال نصوص من أطراف لغوية إلى قلب السوق الإنكليزي. 

كما أنّ حصول كاتب/كاتبة من شرق آسيا على نوبل بكلّ ما تحمله من رمزية أعلى سلّم الاعتراف، يقدّم دليلاً على أنّ مركز "التقديس الأدبي" لم يعد محكوماً بخريطة قديمة، حتى لو ظلت مؤسساته غربية في بنيتها.

وهنا يجب الانتباه إلى أنّ تفكّك المركزية لا يعني زوالها. وأنّ ما يحدث هو أقرب إلى تعدّد مسارات الاعتراف، الذي قد يأتي اليوم عبر الترجمة إلى الإنكليزية، أو عبر سوق إقليمية ضخمة، أو عبر ضجة رقمية، أو عبر منصات قراءة وتوصية جديدة.

صراع الخوارزميات والبيانات
لقد وقع التحوّل الأعمق عندما لم تعد السينما والكتاب وحدهما بوابتين، بل دخلنا عصر المنصات حيث البثّ، الفيديو القصير، الموسيقى، الألعاب، واقتصاد الانتباه الذي يعيد تعريف الثقافة كـتجربة استهلاك مستمرة.

ومن زاوية الاقتصاد الكلي، تظهر تقارير الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) التي تضخّم دور الخدمات الإبداعية في التجارة العالمية، وصعودها كقناة نمو مرتبطة بالرقمنة، ما يعكس أنّ الثقافة لم تعد سلعة رمزية فقط، بل قطاع خدمات عابر للحدود.

وعلى المستوى العملي، صارت المنصات العالمية نفسها تستثمر داخل الجنوب العالمي ليس بوصفه سوقاً للاستهلاك فحسب، بل كقاعدة إنتاج. في المكسيك مثلاً، تمّ الإعلان عن استثمار كبير لإنتاج أعمال محلية خلال عدة سنوات، بما يربط الصناعة الوطنية بسلاسل قيمة عالمية، ويحوّل "المحلي" إلى مصدر محتمل للرموز والقصص.

في المقابل، توجد منظومات منصات آسيوية عملاقة تعمل بقواعدها الخاصة (الصين نموذجاً)، حيث تتنافس منصات فيديو وبثّ وتطبيقات قصيرة على سوق داخلية هائلة، وتطوّر أدوات توزيع واحتفاظ بالمستخدم وتحوّل المحتوى إلى منظومة بيانات. حتى الأخبار الاقتصادية عن الصفقات داخل سوق الفيديو في الصين تظهر كيف تعاد هيكلة "سوق الثقافة" كقطاع تكنولوجي تنافسي.

لكنّ هذا التحوّل يحمل مفارقة مهمة، إذ تفكّك المنصة احتكار "هوليوود - دور النشر الكبرى" على التوزيع، لكنها قد تنشئ احتكاراً جديداً هو احتكار الخوارزمية، وفي مضامينها أسئلة كثيرة: من يظهر في الاقتراحات؟ من الذي يموّل؟ أيّ لهجة تفضّل لأنها قابلة للتدويل؟ وأيّ قضايا تستبعد لأنها تضعف قابلية التصدير؟

بل إنّ دراسات حديثة حول بيئة "الستريمنغ" تشير إلى أنّ تراجع المركزية الغربية لا يلغي ديناميات الإقصاء داخل الغرب نفسه، وأنّ بنية الصناعة يمكن أن ترتدّ إلى تركيز ضيّق في من يملك مفاتيح الإنتاج والانتشار.

ماذا يعني تراجع الاحتكار نظرياً؟
لقد أصبح انتقال القوة من الجغرافيا إلى الشبكة بروتوكلاً يتشكّل باستمرار من منصات وتعاقدات وحقوق وبنية بيانات، وهكذا لم يعد المركز حيّزاً مكانياً يساعد على هيمنة جهة جغرافية - حضارية محددة.

ومع اتجاه سلاسل القيمة الثقافية جنوباً، بفعل التمويل، الإنتاج، ما بعد الإنتاج، ثم التوزيع الرقمي، تقلّص الاعتماد على بوابات أوروبا وأميركا، وباتت هذه الحلقات تدار في بلدان غير غربية أو بالشراكة معها.

ثم إنّ هناك "عالمية" جديدة تصنع، فالاعتراف متعدد القنوات (الجوائز، الترجمة، المنصات، ومجتمعات المعجبين العابرة للحدود) لا يتطابق دائماً مع المعيار الغربي القديم. لكن هل يعني ذلك انتهاء قدرة المركزية الغربية على إعادة إنتاج نفسها؟

نهاية المركزية وحدود التحوّل
لا تزال اللغة الإنكليزية وسيطاً مهيمناً في الترجمة وفي الأسواق الكبرى، ما يعني أنّ كثيراً من "العالمية" تمر عبر هذه اللغة تحديداً، حتى عندما يكون المحتوى غير غربي. ويعود ذلك إلى عوامل عديدة:

- الملكية الفكرية والتمويل: من يملك حقوق الاستغلال العالمية، ومن يملك أدوات التسويق؟ قد تكون القصة آسيوية/لاتينية، لكنّ القيمة الأعلى قد تستخرج في حلقة خارج بلد المنشأ.

- التنميط القابل للتصدير: أحياناً يعاد إنتاج صورة الآخر بما يلائم أذواق السوق العالمية، فتتحوّل اللامركزية إلى تصدير فولكلور محسّن بدل تصدير عمق التجربة.

مع كلّ ما سبق، لا تمثّل نهاية المركزية الغربية في الإنتاج الثقافي إعلاناً عن أفول نهائي، بل تحوّل في قواعد التكوين الثقافي العالمي، من حيث تعدّد مراكز الإنتاج، وانتقال أدوات التوزيع إلى المنصات، وصعود التجارة في الخدمات الإبداعية، وتوسّع قنوات الاعتراف والترجمة. لكنّ السؤال الأكثر نخبوية اليوم ليس حول هوية من ينتج أجمل؟ بل حول من يملك بنية الانتشار، ومن يملك الحق في تعريف العالمية.

أما الجواب، فهو يتشكّل الآن في صراع ثلاثي: الدولة وسياسات الثقافة، السوق والمنصات، والفاعلون الرمزيون  كالجوائز، النقد، الجامعات، المترجمون... وفي هذا الصراع بالذات تولد العالمية الجديدة، بملامح أقل أوروبية - أميركية من حيث الاحتكار، لكنها ليست بالضرورة أكثر عدلاً تلقائياً.

بقلم  نور الدين اسكندر - لبنان