"Nieman Reports" .. حرب نتنياهو ضد الإعلام الإسرائيلي!

الاشراق | متابعة.

مجلة "Nieman Reports" التابعة لجامعة هارفرد الأميركية، تنشر تقريراً مطولاً يتناول حملة بنيامين نتنياهو المنهجية لإعادة تشكيل المشهد الإعلامي في “إسرائيل”، من التأثير على التغطية الصحافية إلى محاولة السيطرة على وسائل الإعلام المستقلة وتحييدها، مقابل تعزيز ودعم منصّات إعلامية موالية لسياساته.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، كان بنيامين نتنياهو دبلوماسياً يتمتّع بحضور إعلامي لافت في واشنطن والأمم المتحدة، حيث سعى إلى التأثير في الرأي العام الدولي بشأن "إسرائيل"، مستخدماً فصاحته وطلاقة لغته الإنجليزية. فقد كان ضيفاً دائماً على برنامج "نايت لاين" على قناة "أي بي سي"، وعلى برامج الحوار الإخبارية الصباحية يوم الأحد، كما كان يحتفظ بقائمة دقيقة تضم نخبة من الإعلاميين الأميركيين، سعى جاهداً إلى كسب ودّهم.

وبعد 40 عاماً، أصبح نتنياهو رئيس الوزراء الأطول خدمةً في تاريخ "إسرائيل"، وهو يواجه اليوم ضغوطاً هائلة، بعد أن أطلق العنان لمستويات غير مسبوقة من القوة العسكرية في غزة وضد إيران، بينما يخوض في الوقت نفسه معارك قضائية داخلية بتهم فساد. ويقول منتقدوه إنّه يبدو مصمّماً لا فقط على التأثير في وسائل الإعلام، بل على السيطرة عليها.

وعلى غرار نهج دونالد ترامب في الولايات المتحدة، أو ناريندرا مودي في الهند، حظرت حكومة نتنياهو أو قاطعت مؤسسات إخبارية لا تروقها تقاريرها، أو تعتبرها تهديداً للأمن القومي، في مقابل تعزيز مكانة وسائل إعلام تتبنّى الخط الرسمي. كما يسعى نتنياهو إلى خصخصة هيئة البث الإسرائيلية العامة، التي يتّهمها بعدم "التوازن الكافي"، قيّد بشدّة وصول الصحافيين إلى غزة.

ويزعم نتنياهو من وجود "دولة عميقة" تعمل ضده، بما في ذلك وسائل الإعلام، التي شبّهها في المحكمة بصحيفة "برافدا". وقد استهدف صحافيين بعينهم، مثل رافيف دروكر، أحد أبرز الصحافيين الاستقصائيين في "إسرائيل"، وذلك للمرة الأولى قبل عقد من الزمن، بعد أن كشف دروكر قصة أدّت إلى إحدى قضايا الفساد التي يُحاكم نتنياهو عليها حالياً.

ويقول دروكر: "لم يسبق لأي رئيس وزراء قبل نتنياهو أن ذكر أسماء الصحافيين. لقد غيّر قواعد اللعبة تماماً، وسمّى الجميع، ووضعنا جميعاً في خانة سياسية، كما لو كنّا ناشطين عازمين على إطاحته به. وأظهر أن احترافنا المهني، بالنسبة له، ليس سوى تظاهر علني. اليوم اعتاد الصحافيون الأمر، لكننا صُدمنا حينها".

وكان ذلك في بداية ما يصفه مراقبو الإعلام المخضرمون بأنّه حملة منهجية شنّها نتنياهو لتقويض وسائل الإعلام المستقلة، منذ عودة حزبه إلى السلطة عام 2015. وقد اشتدّت جهوده لقمع صحافة المعارضة والمساءلة في عام 2023، حين حاولت الحكومة فرض سيطرة أكبر على المحاكم، ما أدّى إلى اندلاع أكبر احتجاجات شهدتها الشوارع الإسرائيلية على مدى أشهر، في تاريخ "إسرائيل". ومؤخراً، بعد هجوم "حماس" المدمّر في 7 تشرين الأول/أكتوبر.

وقد ساعد ائتلاف نتنياهو اليميني المتطرّف في تعزيز نفوذ محطّة الأخبار الأكثر ولاءً لأجندته، وطرح تشريعات تستهدف قنوات الأخبار التلفزيونية البارزة، وحظر "قناة الجزيرة" باعتبارها "ناطقة باسم حماس"، وداهم مكاتبها، وقاطع صحيفة "هآرتس" العريقة. وفي هذا السياق، حذّرت أنات ساراغوستي، المشرفة على قضايا حرية الصحافة في اتحاد الصحافيين الإسرائيليين، من "خطة نتنياهو الموجّهة لتدمير وسائل الإعلام الحرة"، فيما لم يردّ مكتب نتنياهو على طلبات التعليق.

"فوكس نيوز" الإسرائيلية 
إلى جانب مهاجمة المؤسسات الإخبارية المنتقدة لقيادته، دأب نتنياهو على الترويج لمنافذ إعلامية تُردّد آراء الحكومة، وفي مقدّمها صحيفة "إسرائيل اليوم"، التي موّلها وأسسها شيلدون أديلسون عام 2007، بناءً على طلب نتنياهو، على ما يبدو. وكان أديلسون، الذي توفي عام 2021، أحد أقطاب صناعة المقامرة الأثرياء، فيما تتولى أرملته، المولودة في "إسرائيل"، حالياً إصدار الصحيفة. وقد اشتهر الزوجان بتمويل مرشحين يمينيين في الولايات المتحدة، وفي مقدّمهم ترامب، كما أنفقا أيضاً مئات الملايين من الدولارات لدعم طموحات نتنياهو السياسية.

وتُوزَّع صحيفة "إسرائيل اليوم" مجاناً بنسختيها المطبوعة والإلكترونية، ما ساعدها على التفوّق على منافسيها، ولا سيّما صحيفة "يديعوت أحرونوت" اليومية، التي انتقدها نتنياهو بشدّة بسبب تغطيتها الناقدة له ولحكومته. وفي إحدى قضايا الفساد المرفوعة ضده، يزعم الادعاء أنّ نتنياهو كان مهووساً بصورته الإعلامية إلى حدّ أنّه عرض على مالك صحيفة "يديعوت أحرونوت" صفقة تقضي بأن تقترح الحكومة تشريعاً يعرقل نموّ صحيفة "إسرائيل اليوم"، مقابل الحصول على تغطية إعلامية أكثر إيجابية تجاهه وتجاه حكومته.

ومنذ وفاة أديلسون عام 2021، حافظت صحيفة "إسرائيل اليوم" على توجّهها اليميني، لكنها باتت أكثر انتقاداً لنتنياهو وحكومته مما كانت عليه سابقاً. ومع ذلك، ما تزال الصحيفة، في الغالب، ملتزمة بخط الحكومة، سواء عبر دعمها العام لاستراتيجيتها في الحرب على غزة، أم من خلال التقليل من شأن عنف المستوطنين في الضفة الغربية. وقد أشارت دراسة أجرتها جامعة شيكاغو عام 2020 إلى أنّ تأثير الصحيفة كان عميقاً إلى درجة أنّها أدّت دوراً مهماً في تحويل الناخبين الإسرائيليين نحو اليمين، ما أسهم في ترسيخ هيمنة نتنياهو على الساحة السياسية الإسرائيلية.

ومؤخراً، أسهم نتنياهو في تحويل قناة تلفزيونية يهودية مغمورة إلى صوت بارز مؤيّد لحكومته في فضاء الرأي العام، وهي "القناة 14"، المملوكة لإسحاق ميريلاشفيلي، نجل الملياردير مايكل ميريلاشفيلي، المهاجر إلى "إسرائيل"، وأحد أثرى الإسرائيليين، المعروفين بدفاعهم عن سياسات حكومة نتنياهو وترويجها. وكان ينون ماغال، الإعلامي الجريء في القناة، قد وصف نفسه بأنّه "أداة" مطيعة لرئيس الوزراء.

وفي السنوات الأخيرة، أجرى نتنياهو معظم مقابلاته التلفزيونية على "القناة 14"، مستبعداً القنوات الرئيسية مثل "القناة 12"، الشبكة الإخبارية الأكثر شعبية في "إسرائيل"، فيما تحتل "القناة 14" المرتبة الثانية، وقد عزّزت صعودها بفضل الإعلانات الحكومية والمزايا الرسمية التي يُشاع أنّ قيمتها تُقدَّر بملايين الدولارات. وفي عام 2016، سمحت تعديلات تنظيمية للقناة، التي كانت تقتصر سابقاً على البرامج التراثية، ببثّ المزيد من النشرات الإخبارية. وفي عام 2018، أُعفيت من التزامات الاستثمار في الإنتاج المحلي، وهو ما تلتزم به القنوات الرئيسية الأخرى. ويقول آدم شينهار، أستاذ القانون في جامعة رايخمان الإسرائيلية، إنّ ذلك "يسهّل عمل القناة، ويُضخّم صوتها في المجال العام، فيما تُقارن القناة 12 بشكل روتيني بقناة الجزيرة".

ويقدّم المذيع ينون ماغال برنامج "الباتريوتس" على "القناة 14"، وهو عمل سابقاً في هيئة البث الإسرائيلية، إضافة إلى خروجه من عضوية الكنيست كنائب يميني، على خلفية مزاعم بالتحرّش الجنسي. ولم يتسنَّ الحصول على تعليق من ماغال لهذا التقرير، فيما يقول موقع "العين السابعة"، وهو موقع إخباري إسرائيلي استقصائي يُعنى بتغطية شؤون الإعلام وحرية الصحافة، إنّ "القناة 14 تبثّ بانتظام أخباراً كاذبة، وتحريضاً على العنف، ودعايةً حكومية".

وفي أيار/مايو الماضي، قدّمت ثلاث منظمات غير حكومية إسرائيلية التماساً إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، طالبت فيه بإجراء تحقيق جنائي بحق "القناة 14"، استناداً إلى ما تزعم هذه المنظمات أنّه مئات التصريحات التي بثّتها القناة خلال الحرب على غزة، والتي ترقى إلى مستوى التحريض على الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ومن بين الاقتباسات الواردة في الدعوى، تصريحات لمعلّقين في القناة، مثل: "يجب محو غزة كما هي اليوم"، و"علينا قصفها عشوائياً"، و"سنأتي لتدميركم"، و"دمّروا، وشاركوا، وانشروا مقاطع الفيديو ليعرف أصدقاؤهم ما سنفعله بهم"، و"الحلّ الأكثر إنسانية هو تجويعهم".

وإحدى الطرق التي تعكس بها القناة رسائل الحكومة هي تغطيتها — أو بالأحرى تجاهلها — لمحنة الأسرى الإسرائيليين في غزة، وللاحتجاجات الشعبية الأسبوعية، بل واليومية أحياناً، التي طالبت بعودتهم. وتلتزم "القناة 14" موقف نتنياهو القائم على استمرار العمل العسكري باعتباره السبيل الوحيد لإطلاق سراح الأسرى والقضاء على حركة "حماس"، رافضةً فكرة الهدنة وتبادل الأسرى الإسرائيليين بالأسرى الفلسطينيين.

ووفقاً لموقع "سيفنس آي"، لم يكتفِ صحافيو القناة وضيوفها بمهاجمة مؤيّدي صفقة الأسرى، بل هاجموا أيضاً بعض عائلاتهم. كذلك، تُضخّم القناة رسالة نتنياهو التي مفادها أنّ الجيش وأجهزة الأمن، الحكومة، يتحمّلون المسؤولية الكاملة عن الفشل الاستخباري الكارثي الذي سمح بهجوم حركة "حماس".

وتقول الباحثة في "معهد الديمقراطية" الإسرائيلي غير الحزبي، تهيلا شوارتز ألتشولر، إنّ نتنياهو "بذل طاقةً ووقتاً وجهداً غير متناسبين" للتأثير في التغطية الإعلامية، مضيفةً: "وللأسف الشديد، نجح ذلك إلى حدّ ما، في السيطرة على وسيلتين إعلاميتين هما: القناة 14، و«إسرائيل اليوم»".

ولا شكّ في أنّ وسائل الإعلام الرئيسية واصلت انتقاد تعامل نتنياهو مع أزمة الأسرى، وطرحت تساؤلات حول ما إذا كان قد استخدم شعار "النصر الكامل" المراوغ على "حماس" وسيلةً للبقاء في السلطة وتأجيل تحقيق رسمي في هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 المتعدّد الجبهات عبر حدود غزة، والذي أسفر عن مقتل نحو 1200 شخص واحتجاز 251 أسيراً إسرائيلياً، في أعنف هجوم على "إسرائيل" منذ تأسيس الدولة عام 1948.

لكنّ الضوء لم يُسلَّط بالقدر الكافي على الخسائر البشرية الفادحة، ولا على الوضع الإنساني المتدهور للفلسطينيين في غزة، حيث أفاد مسؤولون صحيون محليون بمقتل أكثر من 52 ألف شخص خلال الحرب. ويقول آدم شينار من "جامعة رايخمان" إنّ وسائل الإعلام الإسرائيلية "تخشى تراجع نسب المشاهدة، أو لا ترغب في خسارة المعلنين والمشاهدين، ولذلك تضطر إلى التظاهر بالوطنية".

وبالنسبة لنتنياهو، يعود اهتمامه الشديد بوسائل الإعلام إلى الفترة التي كان فيها دبلوماسياً في الولايات المتحدة، إذ لم يقتصر تركيزه على الصحافة الأميركية فحسب، بل شمل أيضاً الصحافيين الإسرائيليين المقيمين هناك. وقد نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" مقالاً بارزاً عنه في ملحقها الأسبوعي، بعد أن أبهر كثيرين في الأمم المتحدة بخطاباته عقب تعيينه سفيراً لـ"إسرائيل" لدى المنظمة الدولية عام 1984. وعند عودته إلى البلاد، كان معروفاً بجولاته في مكاتب الصحف، حيث يلتقي المحرّرين والمراسلين.

لكن بعد عودته من الأمم المتحدة وبروزه عضواً طموحاً في "حزب الليكود" اليميني، سرعان ما لفت انتباه الصحافيين الإسرائيليين الذين لم يثقوا بسياساته القومية المغلّفة بعبارات برّاقة على الطريقة الأميركية. وكان نتنياهو قد أتقن اللغة الإنجليزية بطلاقة خلال سنوات مراهقته في ضواحي فيلادلفيا، حيث كان والده يعمل أستاذاً للتاريخ.

وتقول الباحثة ألتشولر: "لقد كرهوه منذ اليوم الأول، وهو قاومهم بطرق طويلة الأمد ومتطوّرة، من بينها تجاوز وسائل الإعلام التقليدية، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الموالية بمهارة للتحدّث مباشرةً إلى الجمهور، ولا سيما قاعدته. وتتمثّل استراتيجية أخرى في محاولة إعادة تشكيل المشهد الإعلامي عبر القوانين".

الهجوم التشريعي
عندما عاد نتنياهو إلى السلطة عام 2023، بعد فترة وجيزة من إطاحته، كان من أوائل ما أقدم عليه وزير الاتصالات الجديد، شلومو كارحي، طرح خطة لإعادة هيكلة قوانين العمل التلفزيوني. وكارحي ليس مقرّباً من نتنياهو فحسب، بل أيضاً من ابنه الأكبر يائير، الشخصية المثيرة للجدل، الذي يقود غالباً هجمات إلكترونية ضد خصوم والده.

وقال كارحي، عند إعلانه عن خططه: "لقد انتهى عهد التنظيم الدقيق، وحان وقت تقليل التدخّل، وزيادة المنافسة والحرية". وأضاف: "سنقضي على التدخّل في نموذج الأعمال، وننمّي سوق الإعلانات، ونشجّع على فتح قنوات محتوى جديدة". وتمثّلت الخطة في "إغراق الساحة" بمشاريع القوانين، من بينها مشروع يمنح الحكومة السيطرة على نظام تصنيفات المشاهدة التلفزيونية. وحالياً، تشرف لجنة مستقلة تحظى بثقة واسعة على هذه التصنيفات، التي تُحدِّد بدورها حجم الرسوم التي يمكن تحصيلها من المعلنين.

وتقول عنات ساراغوستي، من اتحاد الصحفيين الإسرائيليين: "تريد الحكومة السيطرة على القنوات، لأنّها بذلك تستطيع تحديد من يحصل على الأموال العامة للإعلانات، بما يخدم تحديداً «القناة 14»، التي تنسجم مع رؤية نتنياهو للعالم وسياساته وأيديولوجيته". ويهدف مشروع قانون آخر إلى خصخصة هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسرائيلية "كان"، التي يشكو كارحي من أنّها "انحرفت كثيراً نحو اليسار"، قائلاً إنّه "لا مكان للبث العام في إسرائيل"، وزاعماً، على نحو خاطئ، أنّه لا يوجد بث عام في الولايات المتحدة أيضاً. كذلك، لم يردّ مكتب كارحي على طلبات الاستفسار والتعليق.

وتقول الباحثة ألتشولر إنّ نتنياهو يريد أمرين في هذه المرحلة: الأول، أن تستمر "القناة 14" في الازدهار، وهو ما يعني منحها أكبر قدر ممكن من المزايا التنظيمية؛ والثاني، "إحداث فوضى في سوق الإعلام، بحيث تبقى القناة في حالة دفاع دائم". وتضيف أنّه "يريد أن يشعر الصحافيون بأنّ بيئة العمل غير آمنة، بما في ذلك محاولة معاقبة وسائل الإعلام التي لا تعجبه".

"هآرتس" و"الجزيرة"
تُعدّ صحيفة "هآرتس" أقدم صحيفة في "إسرائيل"، إذ تأسست عام 1919، أي قبل عقدين من إعلان قيام الدولة اليهودية. وقد كانت هدفاً دائماً للانتقادات، رغم كونها صحيفة إسرائيلية بارزة ومعقلاً لليسار في مجتمع يتجه على نحو متزايد نحو اليمين، كما عُرفت على مرّ السنين بكونها من أشدّ منتقدي نتنياهو وائتلافاته المتعاقبة. وفي بداية الحرب على غزة، أعلن وزير الاتصالات شلومو كارحي عن قرار لمجلس الوزراء كان قد اقترحه، يدعو إلى مقاطعة حكومية لصحيفة "هآرتس"، قائلاً: "لقد حان الوقت لحظر المؤسسات الإعلامية التي تساعد العدو عبر تقويض الروح المعنوية العامة في زمن الحرب".

غير أنّ وزارة العدل عرقلت القرار، بحجّة أنّه ينتهك حرية الصحافة. لكن بعد بضعة أشهر، أدلى عاموس شوكن، ناشر ومالك صحيفة "هآرتس"، بتصريح مثير للجدل وصف فيه المقاتلين الفلسطينيين بأنهم "مقاتلون من أجل الحرية"، وهو توصيف رفضته هيئة تحرير الصحيفة، وتراجع عنه شوكن نفسه لاحقاً. وانتهز كارحي هذه الفرصة لمواصلة المقاطعة، فألغى اشتراكات المكاتب الحكومية في الصحيفة، ومنع أي إعلانات حكومية فيها، قائلاً: "جاء هذا القرار في أعقاب العديد من المقالات التي أضرّت بشرعية دولة إسرائيل في العالم وحقّها في الدفاع عن النفس". ويرى مراقبون أنّ إثارة قضية "هآرتس" تُستخدم لتكون عبرةً للآخرين، ورسالةً إلى الصحف الأخرى مفادها أنّ هذا هو المصير الذي قد تواجهه أي صحيفة تنتقد الحكومة.

وردّ رئيس تحرير الصحيفة، ألوف بن، بمقال رأي بعنوان "لن يُسكت نتنياهو صحيفة هآرتس"، وصف فيه كيف سارع مراسلو الصحيفة إلى تغطية هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وقد نجا بعضهم بأعجوبة من المذبحة، أو فقدوا أصدقاء وأقارب في الهجوم. وأضاف: "لم نواجه قط تحدّياً عاطفياً ومهنياً كهذا في غرفة الأخبار. ومع ذلك، ورغم الصعوبة غير المسبوقة، كان علينا أن نلتزم مهمتنا الصحفية وأن نؤديها على أكمل وجه، وأن ننقل القصة بأوسع نطاق ممكن عن الحرب. وهذا يعني ليس فقط نقل الصدمة في إسرائيل، بما في ذلك محنة الأسرى، بل أيضاً ما كان يحدث على الجانب الآخر في غزة".

وتابع بن: "لن نخشى تهديدات نتنياهو ومساعيه لنزع الشرعية عن صحافتنا وخنق صحيفة هآرتس مالياً. سنلتزم بمهمتنا الأساسية في الدفاع عن حقوق الإنسان والحقوق المدنية، وكشف تجاوزات الحكومة وجرائم الحرب. هذا واجبنا، ولا سيما في ظل الحرب التي تخوضها إسرائيل".

ومن بين المؤسسات الإخبارية الأخرى التي استهدفتها حكومة نتنياهو "قناة الجزيرة" الإخبارية القطرية ذات النفوذ الواسع، والتي تُعدّ الأكثر انتشاراً في العالم العربي. وقد اتهمها نتنياهو وأعضاء في حكومته بأنّها "ناطقة باسم حماس". ولعبت "الجزيرة" دوراً بارزاً في تغطية الحرب داخل غزة، في وقت مُنع فيه الصحافيون الدوليون من التغطية المستقلة، ولم يُسمح لهم إلا بمرافقة الجيش الإسرائيلي، بحجّة أنّ أي ترتيب آخر قد يضرّ بالأمن القومي. وخلال هذه الزيارات الخاضعة للرقابة الرسمية، لا تتاح عادةً فرصة التحدث إلى السكان، ولا التحقق بشكل مستقل من مزاعم أي من الطرفين.

كذلك، أقرّت حكومة نتنياهو قانوناً يُعرف باسم "قانون الجزيرة"، ينصّ على إمكانية إغلاق أي مؤسسة إعلامية أجنبية إذا اعتُبرت تهديداً للأمن القومي. كما يتيح القانون مصادرة المعدات مؤقتاً لأسباب أمنية، وهو ما حدث لوكالة "أسوشيتد برس" بعد تزويدها "الجزيرة" بصور عبر بث فيديو مباشر. وقد ندّد زعيم المعارضة يائير لابيد بهذه الخطوة، واصفاً إياها بأنّها "عمل جنوني".

إمكانية وصول المراسلين إلى غزة
طالبت لجنة حماية الصحافيين ورابطة الصحافة الأجنبية، التي تمثّل المراسلين الأجانب المقيمين في "إسرائيل"، مراراً وتكراراً بالسماح لوسائل الإعلام بالوصول إلى غزة. بل لجأت الرابطة إلى المحكمة العليا للمطالبة بذلك، إلا أنّ الحكومة دأبت على طلب تمديد المهلة لتقديم ردّها. وفي مقال رأي نشرته صحيفة "هآرتس" في أيار/مايو، جدّدت جمعية حماية الحرية دعوتها إلى "إسرائيل" لرفع ما وصفته بـ"حصار إعلامي غير مسبوق".

وكانت جمعية الصحافة الفلسطينية قد كتبت سابقاً: "لقد أعاقت هذه القيود غير المسبوقة بشدّة التغطية الصحافية المستقلة، وحرمت العالم من صورة كاملة عن الوضع في غزة، وألقت عبئاً خطيراً وغير ضروري على زملائنا الفلسطينيين في القطاع. لقد خاطر هؤلاء الصحافيون بحياتهم لإبقاء العالم على اطّلاع بهذه الأحداث المهمة". كما زاد غياب المراسلين الأجانب من الضغط على الصحافيين المحليين. وبحسب إحصاءات لجنة حماية الصحافيين، قُتل أكثر من 160 صحافياً وإعلامياً في غزة منذ بداية الحرب.

وتقول مراسلة قناة "دويتشه فيله" الألمانية في القدس، ورئيسة جمعية الصحافة الأجنبية، تانيا كرامر، إنّ الصحافيين الفلسطينيين في غزة بذلوا جهوداً جبّارة خلال الحرب، وواجهوا تهديداً دائماً بالقصف الإسرائيلي، وعانوا صعوبات بالغة في التنقّل داخل بيئة شديدة الخطورة، مضيفةً أنّ "العديد من المراسلين سقطوا ضحايا للحملة العسكرية الإسرائيلية المدمّرة، وغالباً ما كانوا يعيشون في خيام من دون إمدادات أساسية كافية أو أي دعم لعملهم، واضطروا في الوقت نفسه إلى إعالة أسرهم، فيما فقد بعضهم أفراداً من عائلاتهم وزملاء لهم. لذلك، اضطُرّوا في كثير من الأحيان إلى نقل ما عانوه بأنفسهم".

هجوم على "القناة 13" ورفيف دروكر
داخل "إسرائيل"، بدأت وسائل الإعلام المستقلة تتكتّل لمواجهة مساعي حكومة نتنياهو الرامية إلى تقويضها أو إسكاتها. ففي الصيف الماضي، احتشد صحافيون إسرائيليون احتجاجاً على قرار "القناة 13" إلغاء البرنامج الإخباري "منطقة الحرب"، وهو البرنامج الأكثر شعبية في المحطة، والذي يقدّمه الصحافي الاستقصائي رفيف دروكر، المعروف بكشفه العديد من الفضائح الخطيرة المرتبطة بنتنياهو على مرّ السنين. وقد برّرت القناة قرارها آنذاك بأنّها أرادت بثّ برنامج غير إخباري في تلك الفترة.

وجاء قرار إلغاء البرنامج، الذي تراجعت عنه القناة لاحقاً قبل أن تعود وتبرّره باستمرار الحرب على غزة والحاجة إلى تغطية إضافية، بعد تعيين يوليا شامالوف بيركوفيتش، حليفة نتنياهو والنائبة السابقة عن "حزب الليكود"، رئيسةً لقسم الأخبار في القناة، على الرغم من افتقارها إلى الخبرة الصحافية. وكانت القناة قد اشتُريت قبل سنوات من قِبل رجل أعمال إسرائيلي آخر، هو الملياردير المولود في أوكرانيا لين بلافاتنيك، بناءً على طلب نتنياهو.

وتحت شعار "مؤتمر طارئ لإنقاذ القناة 13"، اجتمع صحافيون من منصّات مختلفة للاحتجاج على إلغاء البرنامج المذكور وتعيين بيركوفيتش مديرةً للأخبار، وهو ما وصفوه بأنّه استيلاء سياسي فعلي على القناة. وقدّمت نقابة الصحافيين في "إسرائيل" ولجنة موظفي "القناة 13" التماساً إلى المحكمة العليا لمراجعة قانونية تعيين بيركوفيتش. وقال دروكر للحشد في الاحتجاج الذي أُقيم دعماً لبرنامجه الملغى: "إنّ أكبر عدوّ لنا هو الشعور بأنّنا نواجه وحشاً قوياً ومتطوّراً لا يمكننا مضاهاته، وأنّه لا جدوى من النضال".

وفي مقابلة، قال دروكر إنّ نتنياهو خرق القاعدة غير المكتوبة التي تقضي بعدم مقاطعة المسؤولين الحكوميين لصحافيين بعينهم أو تجنّبهم. وأوضح أنّه، إلى جانب صحافيين آخرين، وجد نفسه تدريجياً معزولاً عن المقابلات والإحاطات الإعلامية مع المسؤولين. وبلغ الوضع درجةً قال معها دروكر إنّه لا هو ولا معظم زملائه في "القناة 13" يتلقّون أي تواصل مباشر مع مكتب رئيس الوزراء. وأضاف، في إشارة إلى رؤساء الوزراء الإسرائيليين السابقين: "لم تكن لي علاقات ودّية جداً مع أرييل شارون أو إيهود أولمرت، لكن مكاتبهم كانت تتعاون وتزوّدني بالمعلومات، حتى وإن لم يقدّموا لي مواد حصرية".

وكان من أحدث إنجازات دروكر المرتبطة بنتنياهو مشاركته في إنتاج الفيلم الوثائقي "ملفات بيبي"، الذي يتضمّن مقاطع فيديو تُظهر نتنياهو وزوجته سارة وابنه يائير أثناء استجوابهم من قِبل الشرطة بتهم فساد. وقد مُنع عرض الفيلم في "إسرائيل" بسبب قوانين الخصوصية المتعلّقة بنشر محاضر استجوابات الشرطة. وأرسل مكتب نتنياهو رسائل إلى المدعي العام والشرطة طالب فيها بفتح تحقيق جنائي بحق دروكر، غير أنّ هذه الجهات لم تستجب.

ويقول دروكر إنّ هجمات نتنياهو لن تثنيه، لكنه يخشى أن تؤثّر أساليب التكميم هذه في آخرين، سواء من الصحافيين أو من عامة الناس، إذ يُتَّهم من يتحدّثون علناً بأنّهم غير وطنيين بما يكفي، أو بأنّهم "يساعدون العدو". كما أعربت عنات ساراغوستي عن قلقها، قائلةً: "عندما يأتي الصحافيون لتغطية الأحداث، سواء في البث المباشر أو غيره، ترى أشخاصاً يحرّضون ضدهم، ويشتمونهم، ويصرخون في وجوههم، ويرهبونهم. وحتى لو لم تُقَرّ جميع التشريعات الإعلامية الجديدة للحكومة بعد، فسيبقى هناك صحافيون استقصائيون يقولون: لا نريد الدخول في هذا الحقل المحفوف بالمخاطر".

وعلى الرغم من أنّ حملة نتنياهو ضد وسائل الإعلام تحظى باهتمام جماهيري أقل مقارنة بمحاولات حكومته "إصلاح" المحاكم، فإنّ النقّاد يرونها جزءاً من الجهد نفسه لدفع "إسرائيل" نحو حكم أكثر استبداداً. وتضيف ساراغوستي أنّ أبرز وسائل الإعلام الإسرائيلية "تدرك أنّ هذه خطة نموذجية للقضاء عليها". وفي هذا السياق، اجتمع أخيراً كبار المحررين من مؤسسات إخبارية رئيسية ومتنافسة عبر تطبيق "زووم" لتبادل الآراء ومناقشة أفضل السبل للتصدي للهجوم المنسّق الذي تشنّه الحكومة على الصحافة المستقلة. وتختم ساراغوستي بالقول: "إنّهم يرون ما هو أكبر بكثير من هذا التشريع أو ذاك، ولذلك يعملون معاً. وهم يدركون أنّ عليهم إظهار نوع من التضامن".

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي الصحيفة حصراً