الإعلام الرقمي ومعركة الإنسان

الاشراق | متابعة.

لم يعد الإعلام، خصوصاً في عصر المنصات الرقمية ووسائل التواصل، مجرد وسيلة لنقل الأخبار أو التعبير عن المواقف، بل تحوّل إلى ساحة صراع حقيقية تحسم فيها معارك السرد والتأثير قبل أن تحسم على الأرض، بل وقد تفسد ما يمكن أن يحسم على الأرض، ولم يعد الانتصار حكراً على من يملك القوة فقط، بل صار من نصيب من ينجح في رواية قصته بالطريقة العصرية التي يفهمها جيل اليوم، ويقبلها، وتؤثر في سياق صناعة الرأي العام العالمي.

في نموذج كيان الاحتلال، لا ينفصل الإعلام عن مفهوم الأمن القومي، السردية هناك لا تترك للمصادفة ولا تبنى كرد فعل، بل تخطط مسبقاً وتدار ضمن تنسيق محكم بين المؤسسات السياسية والعسكرية والدبلوماسية، ويظهر ذلك بوضوح في التركيز المكثف على الإعلام الرقمي الجديد، حيث يتسابق أثرياء يهود، حتى من خارج "الدولة" العبرية، على الاستثمار في المنصات الأكثر تأثيراً وانتشاراً. ومن ذلك أخيراً استثمارات لمجموعات أميركية مرتبطة، سياسياً وثقافياً، بـ"إسرائيل" في منصات كبرى مثل تيك توك، لما تتيحه هذه المنصات من لغة بصرية وعاطفية عالية التأثير، وقدرة كبيرة على تكييف الرسائل بحسب الفئات المستهدفة ومراكز التأثير.

في المقابل، يعتمد إعلام الجبهة المناهضة للاحتلال غالباً على منطق تعبوي أخلاقي، يرتكز على خطاب المقاومة والاصطفاف القيمي في مواجهة الظلم والهيمنة، هذا الخطاب يمتلك قوة معتبرة في التعبئة داخل البيئات المؤمنة بعدالة القضية، لكنه يواجه صعوبة حقيقية في اختراق الرأي العام الغربي أو التأثير في دوائر صنع القرار، وليس ذلك لضعف القضية، بل لأن لغته تبقى أسيرة نبرة أيديولوجية مباشرة لا تنسجم دائماً مع منطق الإعلام الحديث وأدواته.

الفارق الجوهري بين النموذجين لا يكمن في عدد الرسائل ولا في كثافتها، بل في إدارة السردية نفسها، هناك خطاب صادر عن آلة تبييض سياسي تعمل ضمن منظومة تبرير امبريوصهيونية، تدار بعقلية هيمنة، يعاد فيها إنتاج الإبادة بوصفها ضرورة أخلاقية، وتسويق العدوان كقيمة، هذه السردية مرنة، يعاد تكييفها وتسويقها باستمرار، في المقابل، يعتمد إعلام المدافعين عن القضايا العادلة على سردية موحّدة نسبياً، وهو ما قد يحدّ من مرونته وقدرته على التفاعل بفعالية مع جمهور عالمي متنوع ومتغير.

وهنا تكمن المعضلة في زمن الصورة والرسالة شديدة التشويق، الإعلام لا يكافئ بالضرورة من يملك القضية الأعدل، بل من يعرف كيف يقدمها ضمن الإطار الذي يفهمه ويتفاعل معه الجمهور المستهدف، ولذلك لم تعد معركة السرد مسألة هامشية، بل أصبحت جوهر الصراع نفسه، وأمام هذا الواقع، لا يكفي الغضب، ولا تكفي النيات الطيبة.

المطلوب اليوم هو حركة إعلامية تعبئ الفراغ الثقافي بلغة إنسانية جامعة، مقاومة تبني وعياً، تفكك الصور، تفضح التلاعب بالمفاهيم، وتعيد الاعتبار للحقيقة في وعي الجماهير، بحيث تجهض مشاريع التضليل قبل أن تترسخ، في زمن صار فيه صانع المحتوى المؤثر أحياناً أخطر من القناص، وصار فيه مقطع قصير أو قصة إنسانية قادرة على تحريك ملايين.

 كل محتوى يسائل الرواية ويفضح الحياد الزائف، وكل صوت يختار الوقوف مع الإنسان ضد الظلم، هو جزء من معركة الوعي، هذه الأصوات يجب استقطابها والتقاطع معها في مواجهة الوحشية واللا إنسانية، حيث يجري اختزال الإنسان إلى قيمة دونية في عقيدة الهيمنة التلمودية.

ويبقى السؤال المؤلم: لماذا ما زالت جبهة الوجود العادل، وقوى محور التحرر، وجبهتها الإعلامية، غائبة عموماً عن الإعلام الرقمي برؤية مهنية تقرأ جيل اليوم وتفهم أدواته؟ لقد تغير العالم بسرعة، بينما لا تزال كثير من المؤسسات الإنسانية والخيرية والمرجعيات الدينية والفكرية ودولنا وحركاتنا السياسية تعمل بمنطق قديم، يركز على الوعظ أكثر من التأثير، وعلى الصدقة الآنية أكثر من الاستثمار طويل الأمد في الوعي.

كيف أصبح الإنسان، وهو محور الرسالات السماوية، فريسة للخوارزميات التي يعاد من خلالها تشكيل وعيه بما يخدم مصالح قوى متوحشة بينما نحن نتفرج! القوى المهيمنة لا تخشى مواسم الخير ولا خطب المواعظ، لكنها تخشى إنساناً واعياً يفهم كيف يدار التضليل، ويميز بين السردية المصطنعة والفبركات التي تفوح منها رائحة النفط والغاز.

واقع السنوات الأخيرة يؤكد أن منصات الإعلام الرقمي أصبحت أداة مركزية في توجيه الرأي العام العالمي وصياغة المواقف السياسية، إذ أثبتت الحروب الحديثة وحملات التضامن العابرة للحدود قدرة المحتوى الرقمي على تغيير اتجاه النقاش العام والضغط على الحكومات وإعادة تعريف الضحية والجلاد في وعي الجمهور. 

ويعكس تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا التحوّل بوضوح، إذ أقرّ بأن المحتوى المتداول عبر المنصات الرقمية أصبح من أهم الأدوات المؤثرة في ساحات الصراع المعاصرة، ويؤكد ذلك أن الاستثمار في الإعلام الرقمي وصناعة المحتوى باتا ضرورة استراتيجية ضمن صراع الوعي. وفي هذا السياق، يبرز القلق في المعسكر الأميركي من تشكل رأي عام إنساني عالمي عابر للهويات الدينية والعرقية، يقوم على قيم مثل الكرامة والحرية ورفض الظلم، وهو تصور سبق أن عبّر عنه مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، روح الله الخميني، من خلال تقسيمه الرمزي للعالم إلى (معسكر المستكبرين) و(جبهة المستضعفين) في حين كان الفقهاء يقسمون على أساس دار الكفر ودار الإيمان.

الإعلام انتقل. فهل انتقلنا معه؟ المستقبل يصنع اليوم على شاشة صغيرة، في جيب طفل، وفي عقل شاب يبحث عن معنى، وإن لم نصنع الوعي، صنع لنا، وفهمكم كفاية.

عبدالرحمن أبو سنينة - صحافي عربي مقيم في إيران