سيرة مرئية

الاشراق | متابعة.

إبراهيم عبد الفتاح من أجمل الأصوات في شعر العامية المصرية، حاضر دائما في القلب والروح، بما قدم من أغاني لأعلام الغناء، ولمسلسلات وأفلام كان آخرها مسلسل «جزيرة غمام». كتب مسرحيات أيضا وأصدر دواوين شعرية منها، «شباك قديم» و»لما الشتا يدق البيبان» وله ديوان من الشعر النثري هو «صورة جماعية للوحدة».
إبراهيم عبد الفتاح يحتاج حديثا كبيرا عن منجزه الشعري والدرامي والفكري أيضا، ففي أشعاره تأملات كونية وإنسانية رائعة وفارقة. منذ شهرين تقريبا صدر له كتاب «كيفك إنت.. زياد الرحباني» عن دار بتانة للنشر في مصر. سعيت إلى الكتاب لأني أعرف كم الدهشة التي ستمسك بروحي وعقلي، وأنا أقرأ له عن زياد رحباني، الذي شغلت وفاته الدنيا كلها. أول ما أدهشني هو عنوان الكتاب» كيفك إنت»، هل هو سؤال لزياد رحباني صاحب الأغنية الشهيرة؟ أم هو شرح وتفسير لملحمة وجود زياد رحباني. كنت أعرف بحكم قراءاتي ومتابعاتي لإبراهيم عبد الفتاح أني سأجد الاثنين معا. الكتاب صغير في مئة وخمسين صفحة من القطع الصغير، لكن يتسع ليملأ الفضاء بالأسئلة والإجابات، يكتبه إبراهيم بروح درامية ترى صورها أمامك.
في الفصل الأول وهو في صفحة واحدة بعنوان «البيانو» وزياد في عمر الخامسة، ينظر إلى البيانو كمن وجد كائنا غريبا، وكل مفتاح عليه يشبه جملة ناقصة. سيكمل هو الجمل في ما بعد في فصول أخرى. لم يعد البيانو مجرد أداة موسيقية، بل شريك جريمة، أحيانا يخبئ فيه لحن حب مكسور. ففي سن الثانية عشرة جلس زياد إلى البيانو ولم يكن يعزف فقط. كان يفاوض المفاتيح على ما لم يُقل له من قبل. وفي سن الرابعة عشرة حين طلبت منه فيروز أن يلحن مقطوعة صغيرة، كان يرى أن اللحن لا يُحفظ، بل يُفهم. في الفصل الثاني وهو صفحة واحدة أيضا بعنوان «المدرسة»، حين يتم سؤاله «شو حابب تصير»، يجيب» حابب أظل ناسي الجواب». الروح الوجودية أو العبثية في جمل قصيرة، حتى لو لم يدركها الطفل زياد. في الفصل الثالث وعنوانه «الشارع» يري ما أمامه من غرائب فيقول لنفسه «المسرح مش على الخشبة.. المسرح بيبلش من أول زقاق». المذهل هو إجابته في لقاء أسري في الفصل الرابع حين يسأله زائر: «وانت يا شاطر شو بدك تكون؟»، فيجيب بعد صمت قليل «بدي أكون شخص ما بيجاوب على الأسئلة القديمة». هكذا ندرك كيف سيكون مغتربا ومفارقا.

يتحدث الكاتب عن الحب الذي رآه زياد مشروعا أكبر من أن ينجزه وحده. قصته مع الصحافية دلال كرم وكيف تزوجها، لكن الزواج لم ينجُ من التفاوت بينهما، وأنجبا صبيا سماه عاصي على اسم أبيه، لكن في ما بعد عرف أن الابن ليس ابنه البيولوجي، ورغم ذلك لم يتخلَ عنه بعد أن هجرته دلال وسافرت إلى لندن. عاد إلى وحدته وقضي أكثر من عامين في العزلة، إلى أن أشرقت الممثلة كارمن لبس في حياته. كيف بدأت القصة وكيف انتهت. كل ذلك وكل ما سيأتي يكتبه إبراهيم عبد الفتاح في هيئة صور فنية وإيقاعات موسيقية، وليس حكيا عاديا ولا رأيا.. في الفصل التاسع بعنوان «السياسة ليست نشرة الأخبار» يبدأه الكاتب بعبارة: «دخل السياسة مثل من يدخل سينما مهجورة»، ولك أن تتخيل المعاني. حين مات أبوه عاصي لم يصرخ. قال: «أبي لم يمت بس ما عاد يرد على الأسئلة». وتستمر الإضاءات السينمائية.
تطول الفصول لتصبح صفحات تزداد، فتأتي سيرته عبر لقطات سريعة من الحاضر والماضي. ففي المدرسة يقول عنه مدرس الموسيقى «لا يعزف كما نُعلِّم ولا يسمع كما نحب لكنه يسبقنا جميعا إلى حيث لا نجرؤ». حين سأل مرة عن اسمه الكامل قال» زياد فقط. الباقي يخصهم»، كان يقصد الرحابنة. الاسم الذي فتح له كل الأبواب، لكنه أيضا حمله عبئا لم يختره. نمشي معه في لقطات في شارع الحمرا في الساعة الثالثة عصرا، وينقسم الوقت إلى مشاهد وساعات محددة في كل فعل أو قول..

كيف كتب مسرحية في سن السادسة عشرة لا عنوان لها، ولا أسماء واضحة فيها. فقط أصوات تهتف من خلف الستارة»، إحنا جينا ع البلد غلط». وحين كتب أول مسرحية بالفعل كانت بلا ديكور أو زينة. فقط طاولة وكرسي ومذياع. وحين سأله أحدهم:» ليش ما بتحط شيء يفرح العين» أجاب:» لأن العين صارت شبعانة كذب». حديث عن بعض مسرحياته مثل «نزل السرور» التي عرضت عام 1974. سوداوية وعبثية، فنزل السرور هو مكان كئيب أشبه بسجن أو مصحة نفسية، شخصياتها مسحوقة في انتظار عبثي للخلاص الأبدي. حديث عن مسرحية «فيلم أمريكي طويل» التي عرضت عام 1980 بعد خمس سنوات من الحرب الأهلية اللبنانية، وكانت الحياة اليومية في المسرحية مسلسلا عبثيا، والناس أبطال تراجيديا كوميدية لا نهاية لها. يأتي تفصيل الحديث عن المسرحية والمساهمين فيها كشريط أمامك على الشاشة. «فيلم أمريكي طويل» ليست مسرحية عن لبنان فقط، بل عن كل دولة تنهار ببطء.
تأتي الأغنيات الحزينة لشاب ماركسي، في جيبه نسخة من البيان الشيوعي، لكن في قلبه موسيقي لا تتفق مع أحد. اختار أن يكون أكثر حداثة من العائلة. يقول: «ما بدي يكون عندي مشروع. بدي يكون عندي موقف»، وكتب الأغنية التي لم تغنَ في الحفلات «أنا مش كافر بس الجوع كافر».
ندخل في رحلة جديدة مع الموسيقى والحرب، وكيف كتب أغنيات ومسرحية «بالنسبة لبكرة شو؟» فاضحا الطائفية والفساد. حين سئل لماذا لا يكتب أغاني ترفيهية قال: «ببيروت ما في شيء اسمه ترفيه». تظل تتوالى مشاهد من حياته في سنوات مختلفة كسيناريو مرئي لندخل إلى فيروز. علاقة لم تكن عادية ولا تقليدية، ولا حتى واضحة تماما، بل كانت مثل لحن طويل تارة يكون هامسا كهمس الأم، وتارة متوترا كأنفاس فنان لا يريد أن يشبه أحدا. يقول مثلا:» أنا باحب صوتها كتير، بس باكرهه لما العالم بيقارنوه بصوتي وبفني. صوتها بحر وأنا لسة عم حفّر مجري صغير بإيدي» إلى غير ذلك من صور عن العلاقة بينهما.
يأتي فصل يحيله إبراهيم عبد الفتاح إلى نفسه، كيف وهم يسجلون أغنية كتبها لحنان ماضي ولحنها أحمد الحجار بعنوان» لما الكون بينام» تزامل مع التسجيل أصوات لباب الاستوديو يفتح، وصوت عامل البوفيه يقول «اليانسون يا سادة» وصوت ملعقة على زجاج. كيف أراد أن يقنعهم أن تذاع الأغنية غير منفصلة عما حدث ولم يوافقوا، وبعد عامين صدر البوم «كيفك إنت» لفيروز وزياد، وسُمع فيه صوت باب الاستوديو وضحكة وحوار عابر بين فيروز وزياد. وفي اليوم التالي اتصل الموسيقار ياسر عبد الرحمن، الذي حضر النقاش بإبراهيم يقول «كان عندك حق. يا ريتنا سمعنا كلامك فالمغامرة والتجريب جميلة».
يستمر الكتاب والصور بين الأيام والسنين تعود إلى الخلف وتأتي إلى الأمام في رؤي وحوارات مع المكان، وبين زياد والشاعر عباس بيضون والتاكسي والمدرسة صغيرا، ومشكلته مع نطق حرف الراء كما ينطقه الفرنسيون، ولقاءات عائلية تكشف لنا روح زياد ورأيه في موليير، الذي كتب للمسرح بينما راسين كتب للحاكم، وحضوره إلى القاهرة وما شاهد، وما قال وينتهي الكتاب بفصل بعنوان «موسيقى الرماد»، وسنوات التسعينيات والألفية الجديدة ورحلات زياد بين دول عربية وحوارات متخيلة كالعادة تكشف الكثير، ثم وفاته وجنازته وصور شعرية فائقة عنها لينتهي الكتاب بعبارة» المدينة من بعيد تبدو كأنها توقفت عن التنفس. تراقبها وتعرف أن هذه الرقصة حتى لو لم يرها أحد، ستبقى محفورة في قلب بيروت مثل جملة موسيقية لا تُنسى».
تنتهي من الكتاب لا تفارقك المشهدية السينمائية، التي جعلها الكاتب طريقه ومنهجه، وهذه إضافة رائعة لكتابة السيرة، فالشكل هنا من أجمل طرق التعبير عن المعاني، كما أن كثيرا من فصول الكتاب تأتي كأنها قصائد نثرية.

إبراهيم عبد المجيد - روائي مصري