العنف الانتقامي في الغرب

الاشراق | متابعة.

تجدر بي الإشارة أولاً إلى أنّ مقال أحمد ضياء دردير، الذي أعقّب (متأخّراً) عليه «من وحي الأولمبياد واحتفالات الدم» المنشور في آب 2024، كان قد اختفى من موقع «الأخبار»، بالإضافة لمئات المقالات الأخرى بما يشمل مقالي عن تاريخ «الحرب على الإرهاب» من بغداد إلى غزة، وذلك بعد هجمة إلكترونية في نهاية أيلول على الموقع، في المدّة ذاتها التي قاد فيها الاحتلال حرباً شاملة متعدّدة الأوجه على المقاومة في لبنان، بما يشمل الإبادة السياسية لقادتها. أي أنّ القلم والكلمة، اللتين هما أساس الحضارة، تكفيان كي تتمّ محاربتنا كـ«إرهابيين».

يكتب دردير، عن المظاهر الدموية في التاريخ الفرنسي والغربي التي احتُفي بها في أثناء فاعليات افتتاح أولمبياد باريس، في صيف 2024 وكيف أظهرت حقيقة عدم استحياء الثقافة الغربية التي تدّعي التمدّن من تاريخها الدموي في أثناء الحقب الانهيارية الكبرى وما تبعها من ثورات وحروب داخل القارة «الأكثر سفكاً للدماء» أو في أثناء الحقب الاستعمارية خارج القارة. لكنني أودّ التعقيب على أنّ هذا العنف الدموي الموجود خارج حكم القانون والعدالة «الباردة»، والتي يفترض بها أن تكون أساس الحضارة الغربية الحديثة، يدخل في تكوين هذه الحضارة منذ البدء ويستمرّ حتى الآن.

في علم القانون هنالك ما يسمّى «الثغرات القانونية»، وفي علم البرمجة هنالك ما يسمّى «الأبواب الخلفية»، الحضارة الغربية برمجت على أن تحافظ على تواصلها مع العنف الدموي المتجسّد في عدالة «التخوم» (Frontier Justice) والذي لا يقوم على حكم القانون والعقلانية وإنما الانتقام الفردي القائم على الغريزة والعاطفة. الخدعة السحرية التي هي أساس الحضارة الغربية هي التظاهر بأنّ هذه الثغرة أو هذا الباب الخلفي غير موجود.

المفكّر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل، لاحظ ليس فقط أنّ الجمهوريات الغربية الحديثة ميّالة للحروب بقدر الممالك المطلقة بل ربما بُنيتها تشجّع أكثر على اختيار الحرب على السلام. خاصة مع بزوغ نزعات الهوّية القومية والوطنية لدى المواطن الجمهوري الذي يقسّم العالم إلى دار سلام ودار حرب، أو بالأحرى دار القانون في بلده ودار العدالة الانتقامية في البلاد المنافسة.

الظريف بالموضوع هو عندما يعطي الليبراليون العرب لإخوتهم الغربيين فضل «إنهاء الحروب المجنونة» بعد «سلام ويستفاليا» وتشكّل «الدولة الحديثة» بينما في الواقع تسارعت وتيرة الحروب داخل القارة الأوروبية منذ تلك المعاهدة لقرون، وصولاً إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، حتى عام 1945 عندما تدخّل الأميركيون من أجل إرساء السلام الأميركي (Pax Americana) في أوروبا وإدارة الهوّيات القومية المنفلتة في القارة بصهرها في هوّية واحدة غربية بمواجهة العالم، وتغيير مفهوم دار السلام ودار الحرب عند الغربيين، فتشكّلت بالتوازي مع تشكّل الحدود مع «العالم الثاني» الاشتراكي و«العالم الثالث» المناهض للاستعمار، تشكّلت هوّية وأيدولوجيا حديثة بالغرب تدعى بالـ«العالم-أولية» أو (First-Worldism).

توفّر إسرائيل بعد السابع من أكتوبر تمثّلاً لوجهة الطبقات الوسطى الغربية نحو البربرية بعد أن مارس مثقّفو هذه المجتمعات إرهابهم المعنوي علينا عديداً من الأشهر لإدانة العنف المناهض للاستعمار


بما أنّ دردير، قد ذكر أولمبياد باريس (وذكر بعدها الشغب البربري لمشجّعي فريق كرة القدم الإسرائيلي في أمستردام)، فمن المهم ذكر أثر هذه الهوّية «العالم-أولية» العنيفة في الرياضة. في أثناء زيارة «دينامو موسكو» لبريطانيا في عام 1945، انتقد جورج أورويل، تصرّفات المشجّعين البريطانيين القائمة على اختلاط الرياضة الدولية بالسياسة ومشاعر الحقد الهوياتي، قائلاً: «بمجرد أن تشتعل مشاعر التنافس، يتلاشى مفهوم اللعب وفقاً للقواعد. فالناس يريدون رؤية طرف متفوّقاً والآخر مهاناً… الرياضة الجادة لا علاقة لها باللعب العادل. إنها مرتبطة بالكراهية والغيرة والتباهي وتجاهل جميع القواعد، والمتعة السادية بمشاهدة العنف: بمعنى آخر، إنها حربٌ بلا إطلاق نار».

النخب الغربية لم تستمع إلى نصائح أورويل، مع تفشي المكارثية والبارانويا، في أثناء العقد الأول من الحرب الباردة. في عام 1956 وبعد فشل الثورة الهنغارية ضدّ السوفيات، احتفل الإعلام الغربي في أولمبياد أستراليا بالتصرّفات الاستفزازية لفريق كرة الماء الهنغاري ومشجّعيه ضدّ الفريق السوفياتي والتي ساهمت في حدوث عراك في أثناء المباراة بين الفريقين، بينما أدان الغرب ردّة فعل اللاعب الروسي فالنتين بروبكوف، الذي لكمَ اللاعب الهنغاري إيرفين زادور، ممّا أدّى إلى جرح ونزول الدماء من وجهه. فبات الدم الهنغاري في مياه المسبح الأولمبي أيقونة لدم الضحية «العالم-أولية» المهدور في هنغاريا.

بعد أيام من الغزو الروسي لأوكرانيا، ذكر كل من شاكر جرار ودعاء علي، أنّ أميركا لن تسامح أبداً روسيا على تاريخها الاشتراكي؛ هذه الثيمة لاستحالة «المسامحة» أساسية في عقلية عدالة التخوم «العالم-أولية» والتي تأجّجت بعد أحداث أولمبياد آخر: ميونخ 1972. ومع أنّ المخرج ستيفين سبيلبرغ، في فيلمه عام 2005 -المتعاطف مع الرواية الإسرائيلية- تساءل عن جدوى العنف الانتقامي الإسرائيلي ضدّ قادة «أيلول الأسود»، إلا أنّ قطاعات كبيرة من المجتمع الغربي لا توفّر مناسبة للبس رداء ضحية أولمبياد ميونخ (حديثاً أنتج فيلم عن تلك الأحداث يسمّى «September 5» على نسق مسمى «October 7»).

أحداث الحادي عشر من أيلول، أعادت للواجهة الأيديولوجيا «العالم-أولية» وهوسها بالعنف الانتقامي خارج حكم القانون، فباتت العدالة الفوضوية الغربية المحقنة بـ«ثيولوجيا التحرير الإنجيلية» المنحرفة هي الأصل الواضح وليس الاستثناء الخفي للمعسكر الغربي. مثل هذا التحوّل/المفارقة أدّى إلى تآكل الأساس القانوني والدستوري للحضارة الغربية مع بقاء الأساس الهوياتي اللاعقلاني. يقول المحامي الفرنسي رافاييل كيمف، أنّ الانتقام ضدّ الإرهاب في البلدان الغربية أدّى إلى تآكل أصول المحاكمات والإجراءات القانونية الواجبة من أساسها، إذ يصبح مصطلح العدالة غطاء للرغبة العارمة بالانتقام. هذا التآكل يؤدّي إلى نهاية السياسة في الغرب أيضاً، فيتحوّل كل شيء، حتى انتخاب زهران ممداني، إلى مؤامرة «حمراء-خضراء» من اليساريين والإسلاميين ضدّ الضحية البيضاء المحاصرة من «سكان الكومباوندات» أو الـ«suburbs» في أميركا.

توفّر إسرائيل بعد السابع من أكتوبر تمثّلاً لوجهة الطبقات الوسطى الغربية نحو البربرية بعد أن مارس مثقّفو هذه المجتمعات إرهابهم المعنوي علينا عديداً من الأشهر لإدانة العنف المناهض للاستعمار - المشروع بموجب القانون الدولي. الرغبة في الانتقام العنيف وعدم القدرة على المسامحة تبدو وكأنها على تعارض حتى مع المبادئ المسيحية الأساسية التي شاعت قبل علمنة المجتمع الغربي. اليوم إسرائيل، اختارت رسالتها البربرية إلى العالم مكتوبة على لباس الأسرى الفلسطينيين: «لا ننسى ولا نغفر».

صدقي عاصور - كاتب فلسطيني