حديث الحرب.. اللبنانيون والآخرون!

الاشراق | متابعة.

أول الكلام: ليس الانقسام سمة لبنانية صِرفة، بل هو سمة إنسانية ضاربة في التاريخ منذ لحظة قال فيها أول إنسان: «هذا لي»، كما يشير جان جاك روسو في كتابه «أصل التفاوت بين الناس». غير أنّ الانقسام في لبنان يحمل خصوصيته المتولدة من تباينات هويّاتية وثقافية وطائفية، ومن تاريخ طويل من الاحترابات الأهلية المتراكمة. ومع ذلك فلبنان ليس استثناءً؛ فمن النادر أن تتطابق خريطة الدولة الجيوسياسية مع خريطتها الثقافية.

هذه الأيام، يتصدّر «حديث الحرب» المجالس الشعبية والصالونات الثقافية وفضاءات الإعلام والتواصل الاجتماعي. وينقسم اللبنانيون إلى فريقين: فريق يستدرج الحرب ويبدو كأنه يتمنّاها، وآخر يخشاها لكنه يروّج لها على طريقته. وكلاهما، عن وعي أو دون وعي، يخدم الحدّ الأدنى من أهداف الحرب النفسية الإسرائيلية.

لست من مدرسة «الجوهرانيين» الذين ينسبون الصفات إلى الشعوب كما لو كانت قدرًا، ولا أعتقد أن «التشاؤم» أو «التطيّر» سمة لبنانية، رغم المآسي والويلات التي عاشها اللبنانيون على مدى عقود من الحروب.

لكن ما يميّز عددًا كبيرًا من المحللين السياسيين في لبنان ـ رجالًا ونساء، من طبقات وانتماءات متباينة ـ هو الميل إلى «التشويق» في سرد ما يظنّونه «فتوحات» صحافية مسبوكة بالحدس، حيث يحضر الملهم الغيبي الذي يكشف لهم ما لا يعرفه البشر، وتنتهي الحكاية دائمًا بجملة: «شفتوا؟ طلع معي حق».

منذ وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الإسرائيلي في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، لا يكاد يمر يوم إلا و«وصفة حرب» جديدة تجتاح الصحافة ووسائل التواصل التي صارت ساحات الوغى الافتراضية لجمهور واسع من اللبنانيين. والكلام دائمًا عن جولة أشدّ ضراوة من الحرب، «لا تُبقي ولا تذر».

ومع سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، ازدادت وتيرة «الاستشرافات» وتضخمت «الوصفات». أضيفت جبهة أخرى، وظهرت رواية «الكمّاشة الجنوبية ـ الشرقية» بقيادة نتنياهو والشرع، وتعزّزت مع مناوشات على الحدود السورية ـ اللبنانية وانفلاتات أمنية متفرقة... وعلى امتداد عام كامل، استقر السؤال على شفاه المحللين: متى تقع الحرب؟

صار اللبنانيون، وجمهور المقاومة خصوصًا، يتلقّون سيناريو حرب شبه يومي، يصوغه «العدو» و«الصديق» في آن واحد. هذا توقع الهجوم «البارحة»، وذاك يجزم بأن زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان لن تردع العدو عن قرار الحرب، وثالث يروي اتصالًا تلقّته صحافية يطلب منها مغادرة الضاحية فورًا لأن «الخطة الإسرائيلية» جاهزة وتهدف إلى «محو» الضاحية وتحويلها إلى «غبار». والمشترك بين هؤلاء جميعًا هو اليقين بأن الحرب المفتوحة حتمية، وأن السؤال هو: متى وليس هل؟

وحشية إسرائيل وجموح
نتنياهو ليسا شرطين حاسمين لحرب باتت رهن حسابات أبعد من الأشخاص، حتى ترامب نفسه يعرف تعمق مأزق إسرائيل بسبب الحروب المفتوحة القائمة ضد فلسطين ولبنان

لا يختلف اثنان على عدوانية الكيان الصهيوني، وعلى المأزق الوجودي الذي يعيشه نتنياهو في الداخل والخارج من فشل الحسم العسكري إلى الملاحقات القانونية، وانهيار صورته السياسية وتحوله إلى مجرم حرب. ولا يختلف اثنان على أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو أقوى حليف لإسرائيل منذ تأسيسها، يوفّر الغطاء الكامل لحروب نتنياهو. لكن ما يجب التذكير به دائمًا هو: الحرب تتجدّد عندما تفشل جولاتها السابقة في تحقيق أهدافها، ولكن تجدّدها لا يكون بالوتيرة نفسها، بل وفق شروط جديدة وبميزان قوى مختلف.

تجدد الحرب ليس عملية ميكانيكية، بل نتيجة تفاعل معقّد بين عوامل سياسية وعسكرية واقتصادية ونفسية. فالأسباب العسكرية المباشرة، من تآكل الردع، وتغيّر ميزان القوى، إلى فشل الأهداف الاستراتيجية، وعلى أهميتها، لكنها ليست كافية لشن الحرب.

هناك عوامل أخرى تتعلق بالضغوط الداخلية، والإنهاك الاقتصادي، وفقدان الاستقرار، وعدم قدرة الحكومة الإسرائيلية على توفير الأمن المستدام بعد سنتين من الحرب، فضلًا عن تأثير الحليف الأميركي الذي يلعب لعبة مزدوجة: يشعل الحرب حين يريد، ويطفئها حين يريد، وفق مصلحته وحده.

وبالنظر إلى مجمل المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية، فإن إدارة ترامب ليست في وارد التفلت نحو حرب واسعة جديدة. السقف الأميركي الحالي يقتصر على: «الضربات الذكية»، التهويل الإعلامي بالحرب المفتوحة، إدارة الاشتباك دون الانزلاق إلى حرب شاملة.
يضاف إلى ذلك الانهاك غير المسبوق الذي أصاب الاقتصاد الإسرائيلي، وهجرة الشركات والرساميل، والنزيف الهائل في قطاع التكنولوجيا حيث غادر نحو 8,300 موظف بين أكتوبر 2023 وسبتمبر 2024. ووفق تقارير عدة، ارتفعت موجة الهجرة الاستثمارية بين المليونيرات الإسرائيليين منذ الحرب.

أما استطلاعات الرأي بين 2024 و2025، فتُظهر انهيار الثقة بنتنياهو إلى حدود 10–20%، رغم أن أكثر من 60% من الإسرائيليين ما زالوا يؤيدون مبدأ الحرب على غزة، لكن 30% فقط يعتقدون بإمكانية القضاء على حماس.
لقد تغيّر العالم. لم يعد السلاح وحده يحسم الحرب. وإنّ ثمة حرباً موازية: حرب الرأي العام.

لقد راهنت إسرائيل على «رأس المال الأخلاقي» لسرديتي الهولوكوست ومعاداة السامية، من أجل تبرير الإبادة الجماعية في غزة. لكنها صُدمت بالتحوّل التاريخي في الرأي العام الغربي، ما دفع نتنياهو إلى حالة إنكار كاملة، واتهام الطلاب الأميركيين بأنهم «عملاء لإيران»، وتوصيف المظاهرات المليونية بأنها «مموّلة من إيران».

حتى ترامب نفسه، ورغم نرجسيته، سبق نتنياهو إلى إدراك التحول الأميركي، حين قال في مقابلته مع ديلي كولر (1 سبتمبر 2025): «اللوبي الإسرائيلي لم يعد كما كان، والرأي العام الأميركي ـ وخاصة الشباب ـ أصبح أكثر تشككًا». وقال أيضًا: «إسرائيل تكسب الحرب عسكريًا، لكنها تخسرها في محكمة الرأي العام». وهذا ما دفع إسرائيل إلى:
ـ التعاقد مع شركات علاقات عامة.
ـ شراء خدمات ترويجية للإنجيليين
ـ تمويل روبوتات تضخّم الرسائل
ـ محاولة التأثير على نتائج البحث والذكاء الاصطناعي
ـ استهداف الشباب الأميركيين عبر تيك توك، وانستغرام، ويوتيوب.

بحسب تقارير، تم إنفاق عشرات ملايين الدولارات، ومع ذلك تُظهر استطلاعات مركز بيو (2022 ـ 2025) تدهورًا دراماتيكيًا في تأييد إسرائيل وصل إلى 53% نظرة سلبية عام 2025. أما الملاحقات الدولية بتهم الإبادة وجرائم الحرب، فقد أصبحت قيدًا ثقيلًا على حركة نتنياهو ووزرائه وقادته العسكريين.

ولذلك، فإن قراءة المشهد اللبناني من داخل لبنان فقط تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي أن الحرب حتمية واقتلاعية.
لكن قراءة المشهد من خارجه تكشف العكس، حيث يوجد نقص في الشروط الدولية والمحلية التي تجعل الحرب الواسعة خيارًا واقعيًا لإسرائيل اليوم.

إن رواية الحرب اللبنانية ليست لبنانية المنشأ، بل إسرائيلية المصدر، تتولاها وسائل الإعلام العبرية (يديعوت أحرونوت، معاريف، تايمز أوف إسرائيل، كان، القنوات 12، 13 و14) وتؤازرها قنوات عربية (العربية، الحدث) ولبنانية معروفة التوجّه. جميعها «يكب» «معطيات» ضمن وصفة نفسية تجعل المحلل اللبناني يردد، وبشكل غير واعٍ، النتيجة الإسرائيلية المسبقة: الحرب واقعة لا محالة.

الرقابة العسكرية الإسرائيلية تدرك ولع الصحافي اللبناني بما «يتسرب» من الإعلام العبري، فتسمح بمرور روايات مختارة هي جزء من الحرب النفسية. والمحلل اللبناني، في كثير من الأحيان، يبتلع الطُعم.

أمام هذا الضجيج، ما من خيار سوى الصراخ: كفى! لقد أصاب العدو فينا مقتلًا. وتحوّل بعضنا إلى أداة من أدوات «الحرب النفسية» ضد الذات اللبنانية.

لسنا ننفي جنون العدو وتوحّشه، لكننا نذكّر بما غاب وسط ضجيج التهويل: لا بد من التمييز بين التهويل والتهديد.
بعض المحللين اللبنانيين، مدفوعين بالخصومة الداخلية، يتبنون رواية العدو لأنها تخدم أجندات «الاحتراب الأهلي البارد». لكن هؤلاء ـ شأن غيرهم ـ يخضعون للرواية الإسرائيلية الأساسية.

صحيح أنّ إسرائيل تملك قدرة تدميرية كاسحة، ولكن «السلام بالقوة» الذي بشّر به القادة الصهاينة محمولًا على عقيدة إدارة ترامب، أثبت أنه طريق مسدود. فالأهداف الكبرى لحروب إسرائيل كانت أميركية:
«الشرق الأوسط الجديد» (كونداليزا رايس، 2006)
«الاستسلام غير المشروط» لإيران (ترامب، 13 حزيران 2025)
«تحويل غزة إلى ريفيرا» (ترامب، 4 شباط 2025)
ومع ذلك، لم يكن الإسرائيلي هو من أعلن نهاية هذه الحروب، بل الولايات المتحدة نفسها: لبنان (2006، 2024)، إيران (23 حزيران 2025) وغزة (أكتوبر 2025).

إن أخطر ما يعيشه قادة الكيان اليوم أنهم يجيدون إشعال الحروب، ولكنهم عاجزون عن إنهائها. ولذلك تُطرح الأسئلة القلقة: إلى أين يمضي الكيان؟

إن لبنان لا يزال في قلب المعركة. والاستهدافات اليومية، بالتوازي مع الضجيج حول حرب واسعة، مجرد إلهاء استراتيجي لإخفاء الجرائم اليومية.

وعلى المجتمع المدني اللبناني أن يتحرك لوقف التهويل وتثبيت وقف نار فعلي وفق القرار 1701.
أما الخاتمة المُرّة: فإن إنقاذ الكيان الصهيوني من حصاره وسقوطه لن يكون على يد الغرب، بل، للأسف، سيكون على يد بعض العرب عبر فخّ الاتفاق الإبراهيمي.

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.
عبد الله العلوي - كاتب عربي.