تركيا وإعادة الضبط الإقليمي
الاشراق | متابعة.
تُواجِه السياسة الخارجية التركية، التي صاغتها نماذج حكم حزب العدالة والتنمية الممتدّة لأكثر من عشرين عامًا، تحدّيات مُعقّدة في نظام عالمي مضطرب، وتسعى إلى تحقيق توازن دقيق. ففي الوقت الذي تُشكّل فيه الضرورات الاقتصادية، والسعي نحو الاستقلالية الاستراتيجية، وسياسة التوازن الصعبة بين الغرب وروسيا، الإطار العام لتحركات أنقرة، تجد الأخيرة نفسها تسعى لترسيخ مكانتها الإقليمية، بينما هي عالقة في دائرة مُفرَغة مع الاتحاد الأوروبي، تتّسم بالابتزاز والتهديد المتبادل، وتفتقر إلى مبادئ الاحترام والشرعية المتبادلة.
يُشكّل البحث عن الاستقلالية والمكانة الدولية الإطار العام للسياسة الخارجية التركية، ومن غير المُرجّح أن يتغيّر هذا الإطار في المستقبل المنظور.
ومع ذلك، فإن هذا المسعى المثالي يتشكّل تحت ضغط الحقائق الاقتصادية الراهنة، إذ أجبر التضخّم المرتفع وتضاؤل الإمكانات الاقتصادية أنقرة على انتهاج سياسة «إعادة الضبط الإقليمي» حيث كان الوجه الأبرز لهذه السياسة هو استهداف استعادة العلاقات مع الخصوم السابقين لجذب رؤوس الأموال والاستثمارات من دول الخليج. وتُعدّ هذه الضرورة الاقتصادية هي القوة الدافعة وراء الميل نحو التطبيع وخفض التوتر على مستوى المنطقة بأكملها.
وفي هذا السياق، تمكّنت تركيا من تخفيض حدّة التوترات في ليبيا، وشرق المتوسط، وسوريا، إلى مستويات يمكن تحمّلها. كما خفّفت تركيا من حدّة التنافس الجيوسياسي مع قوى إقليمية مثل مصر، والإمارات العربية المتحدة، واليونان. ويبدو أن أنقرة قد عادت إلى سياستها الإقليمية التي سبقت الربيع العربي، حيث توازِن بين جاذبيتها للجماهير العربية والحاجة إلى الحفاظ على علاقات أوثق مع حكامها لدعم التعاون الإقليمي، بعد الابتعاد عن الاستقطاب الأيديولوجي للربيع العربي.
نفوذ مُعقّد في الساحة السورية
تُعدّ الساحة السورية مثالاً صارخاً على نفوذ تركيا والتحدّيات التي تواجهها. فبعد الإطاحة بنظام الأسد، أصبحت تركيا بلا منازع واحداً من الفواعل الأكثر نفوذاً في المنطقة؛ بل ولعبت دوراً غير مباشر في تشكيل فصيل «هيئة تحرير الشام».
ومع ذلك، ونظراً إلى عدم وجود فاعل بديل لهذا الفصيل، قادر على توفير الاستقرار في سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد – على الرغم من الانتهاكات الجسيمة – فقد دفع ذلك القوى الإقليمية والدولية إلى دعم إدارة زعيم «الهيئة»، أحمد الشرع. ولم تكتفِ تركيا بالوقوف بقوة خلف إدارة الشرع فحسب، بل دعمتها دولياً، وبذلت جهداً دبلوماسياً غير مسبوق بالتعاون مع الرياض لجعلها إدارة شرعية في نظر الولايات المتحدة، ونجحت في ذلك.
وفي ما يتعلق بـ«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، يبدو أن الولايات المتحدة نجحت في إقناع تركيا. وتُظهِر التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أن أنقرة تسير على الخط نفسه مع واشنطن. إن مساعي أنقرة نحو المصالحة مع أكرادها داخلياً، ودمج الأكراد السوريين – الهدف الحقيقي لعملية الحل – في التحالف، تشير إلى تحوّل في السياسة.
مُثلّث روسيا-العالم التركي-الولايات المتحدة
يمثّل مُثلّث روسيا، الغرب (خاصة الولايات المتحدة)، وتركيا، النقطة الأكثر حساسية في السياسة الخارجية التركية. تسعى أنقرة إلى الحفاظ على توازن جيوسياسي في وسط هذا المُثلّث. ومع ذلك، فإن هذا التوازن يستبعد أي تعاون دفاعي جديد، مثل شراء منظومة S-400 أخرى. فبالنظر إلى التوترات الكبيرة التي أعقبت شراء المنظومة الروسية عام 2017 مع واشنطن، فمن غير المُرجّح أن تدخل أنقرة في تعاون دفاعي جديد وشراء أنظمة أسلحة متطوّرة من موسكو.
يبدو أن أنقرة قد عادت إلى سياستها الإقليمية التي سبقت الربيع العربي، حيث توازِن بين جاذبيتها للجماهير العربية والحاجة إلى الحفاظ على علاقات أوثق مع حكّامها لدعم التعاون الإقليمي، بعد الابتعاد عن الاستقطاب الأيديولوجي
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من أن الاهتمام المتزايد لتركيا بـ«العالم التركي» يعني نظرياً تنافساً أكبر مع موسكو، تحاول أنقرة حالياً تطوير هذا الاهتمام دون الدخول في صراع مع روسيا. ومع ذلك، فإن تحوّل هذه السياسات إلى إنشاء نفوذ دائم في الجمهوريات التركية قد يتطور إلى صراع مع موسكو.
أمّا في ما يتعلّق بالعلاقات مع الولايات المتحدة، فقد شهدت تحسناً ملحوظاً في عهد ترامب، على الرغم من بعض التوتّرات في عهد بايدن. ويرتبط هذا التحسن بشكل كبير بالعلاقات الشخصية الوثيقة بين الثنائي إردوغان-ترامب. وعلى الرغم من التوترات الظاهرة في العلاقات مع إسرائيل، يتّبع إردوغان سياسة براغماتية للغاية في هذا الشأن، ويتجنّب بحذر أي مبادرات قد تعرّض سلطته للخطر من خلال إفساد العلاقات مع الولايات المتحدة. وفي الواقع، باستثناء العلاقات مع إسرائيل، لوحظ توافق واضح بين تركيا والولايات المتحدة على الرغم من بعض الاختلافات في قراءة السياسة العالمية والتنافس بين القوى العظمى؛ ولا سيما في سوريا، حيث يمكننا الحديث عن فاعلين يعملان بشكل مشترك في كل المجالات تقريباً.
مأزق الاتحاد الأوروبي: دور «دركي الحدود»
تتجلّى أكبر مشكلة هيكلية تعيق سعي أنقرة للاستقلالية والمكانة، في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي. إنّ الافتقار إلى الرؤية الجيوسياسية للاتحاد الأوروبي، مقترناً بتآكل المعايير الديمقراطية في تركيا، يُعمّق كل ذلك الخلل الوظيفي الهيكلي لعملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
لم يعد القادة الأوروبيون يُخفون تفضيلهم لرؤية تركيا ليس كمرشّح للعضوية أو شريك، بل كـ«نوع من دركي الحدود» أو «موقع أمامي». وقد تمثّل الدور الذي رُسم لتركيا أولاً في أن تكون مستودعاً للاجئين، وبعد تولّي ترامب للسلطة، ومع تزايد المخاوف الأمنية، أصبح الهدف الأكبر هو الاستفادة من الجيش التركي. إنّ قبول إدارة إردوغان بهذه المساومة وتحويل تركيا إلى معاملة المنطقة العازلة لا يخدم مصالح البلاد على المدى الطويل. كل مساومة تُعقَدُ تجعل تركيا أداةً في نظر السياسيين الأوروبيين وتُبعدها يوماً بعد يوم عن مسار عضوية الاتحاد الأوروبي.
من ناحية أخرى، من الواضح أن الاتحاد الأوروبي لم يلعب دوراً بنّاءً في هذه العملية، إذ لم يكن الاتحاد الأوروبي شريكاً حقيقياً ومتضامناً مع تركيا في إدارة شؤون اللاجئين/الهجرة لسنوات، بل اتّبع سياسة تقوم على مساومة هجرة قذرة، تلقي بالمسؤولية على عاتق الشعب التركي. إذا كان الأوروبيون يريدون شراكة حقيقية، فلن يتعاملوا مع تركيا كدولة يمكنهم تكليفها بمهام؛ بل سيقبلون المساواة، ويتقاسمون المسؤولية على أساس حقوق الإنسان، بدلاً من اعتبار مسألة المهاجرين مجرد تحويل أموال وضغط حدودي. وما لم تتغيّر هاتان المقاربتان، لن يكون هناك تقدّم في إدارة الهجرة أو العلاقات الثنائية يخدم مصلحة الأمّة التركية.
الخط الرفيع بين الطموح والواقع
يُقِرّ مهندس السياسة الخارجية، وزير الخارجية هاكان فيدان، بأن تركيا تضع أمامها مجموعة من الأهداف في المنطقة القريبة، مثل تحقيق السلام في العراق وسوريا وفلسطين، والأمن الغذائي، والتنمية الاقتصادية المبهرة، ومحاربة الإسلاموفوبيا. ومع ذلك، يمكن القول إن أهداف التنمية الاقتصادية على وجه الخصوص محكومة بالفشل ما دامت المشاكل الاقتصادية الداخلية قائمة. ففي وقت يشهد فيه العالم انخفاضاً كبيراً في أسعار الغذاء، يتعرّض فيه المواطنون في تركيا لـ«إرهاب غذائي» بسبب الغلاء الفاحش، فلا يمكن أن يكون لأهداف فيدان صدى لدى عامة الناس.
تقف تركيا اليوم عند نقطة تحوّل. إنّ التحدّي الأكبر الذي يواجه أنقرة هو كيفية تحقيق التوازن بين الطموح والواقع. إنّ الادّعاءات بأن دولة عضواً في حلف شمال الأطلسي تتبع سياسة خارجية مستقلة تماماً، إمّا أنها نابعة من نقص المعرفة الكافية بمعايير النظام العالمي أو من مساعٍ عاطفية. إذا تجاوزت تركيا إمكاناتها المادية ودخلت في مغامرات دولية، فإنّ هذا سيؤدّي إلى تحميل تركيا أعباء مالية كبيرة وسيتم تحميلها الثمن في النهاية، تماماً كما حدث خلال عملية الربيع العربي.
على تركيا أن تركّز على المجالات التي تتمتّع فيها بميزة نسبية، مثل الوساطة، والدبلوماسية الإنسانية، وحلّ المشكلات العابرة للحدود كأزمة المناخ والهجرة، دون تجاوز إمكاناتها المادية. ولكنّ الأهم من ذلك، عليها أن تركّز على بناء «هيبة» دولية. القوة العسكرية والاقتصادية شيء، لكنّ الشرعية والمصداقية في نظر المجتمع الدولي شيء آخر. إنّ دور تركيا في مناطق النزاع والمساعدة الإنسانية هو ما يمنحها هذه الهيبة، ويجب الحفاظ عليها بعناية فائقة. فسهولة كسب هذا الاحترام لا تعني صعوبة فقده.
تقف تركيا اليوم عند مفترق طرق: يمكن أن تكون مجرد فاعل إقليمي قوي يعاني من صراعات جيرانه، أو يمكن أن تكون قوة متوسّطة تساهم بذكاء في تشكيل القرن الجديد، من خلال تقديم نموذج التضامن والقيادة الهادئة الذي يحتاج إليه عالمنا المضطرب. الرؤية واضحة، الطموح لا حدود له، وتظل الحكمة في التنفيذ هي العامل الحاسم.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.
إسلام أوزكان - كاتب تركي