أضواء على الخطة الأميركية-الصهيونية لإعادة احتلال غزة واستعمارها
الاشراق | متابعة.
في غزة، كما في لبنان، لم يكن وقف إطلاق النار، من الجانب الصهيوني، جدّياً.
أما قرار مجلس الأمن رقم 2803، المدعوم من الأنظمة العربية والمسلمة، فليس سوى غطاءٍ لتمرير خطة أميركية-صهيونية لإعادة احتلال غزة وتهجير أهلها واستثمارها اقتصادياً وعقارياً والاستفادة من موقعها جيوسياسياً على خط الهند-"الشرق الأوسط"-أوروبا كبديل لخط الحزام والطريق الصيني.
هذا ما أظهرته مجموعة من الوثائق والتقارير التي رشحت من الإعلام الغربي، وخصوصاً عبر المواقع المناهضة لسياسات ترامب ونتنياهو، كما سنرى.
في البداية، ما زال الكيان الصهيوني يفجّر المباني في المناطق الواقعة تحت سيطرته في غزة، 1500 مبنى في الشهر الأول لما زعموا أنه "وقفٌ لإطلاق النار"، بحسب تقرير للـ BBC في 11/11/2025، مع العلم أنّ 320 ألف منزل في غزة دُمّرت أو تضرّرت بشدة حتى آب/أغسطس الفائت، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، كما تنقل مجلة "ذا إيكونومست" البريطانية في 12/11/2025.
تاريخياً، كان تدمير المنازل (والمدارس والمستشفيات والمنشآت الصناعية والمساجد والكنائس) جزءاً من سياسة منهجية بدأت مع الانتداب البريطاني، قبل تأسيس الكيان الصهيوني، كما أظهرتُ في مادة هل جاء تدمير مباني غزة رداً على "طوفان الأقصى"؟.
كما نرى بوضوح أنّ هذه الممارسات تُعدّ جزءاً يومياً من سياسات العقاب الجماعي ضدّ حواضن المقاومة من شمالي الضفة الغربية إلى جنوبي لبنان وأبعد.
لكنها تمثّل، في السياق الغزّي بالذات، إضافةً إلى كلّ ما سبق، جزءاً من خطة ترامب-نتنياهو لوضع اليد على غزة، ومن مشروع تهجير الغزيين كلازمة ضرورية لتنفيذ تلك الخطة، لأنّ الاستمرار في تدمير المنازل، بعد وقف إطلاق النار من طرف المقاومة، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين في غزة، لا يمكن فهمه إلا كمشروع تهجير.
ويمثّل تقييد دخول المساعدات إلى غزة، حتى لإكفاء الحاجات الأساسية لشعب منكوب أو نازح، مكوّناً آخر من مكوّنات مشروع التهجير. أما إعادة الإعمار، فتحوّلت إلى سلاح، إذ ستُحرم منه المناطق الواقعة خارج ما يسمّى "الخط الأصفر" في غزة، أي التي لا يسيطر عليها الكيان الصهيوني مباشرةً، حتى يضطرّ ساكنوها إلى مغادرتها "طوعاً"، بحسب الوثائق التي يجري تداولها.
ثمّة مصطلح جرى تمريره في البند الثاني من القرار 2803 بالمناسبة هو "إعادة التنمية" redevelopment غزة، باعتبار ذلك مهمّة "مجلس السلام" الذي يفترض أن يجري تشكيله لتنفيذ خطة ترامب بشأن غزة والتي أعلن عنها في 29/9/2025، وباعتبار التقدّم في تحقيق تلك المهمة، إلى جانب "إصلاح السلطة الفلسطينية"، شرطين لا غنى عنهما لمجرّد الحديث في موضوع "الدولة الفلسطينية".
وتعني "إعادة التنمية"، في القاموس العقاري، إنشاء مبانٍ جديدة بعد تدمير القديمة في منطقة مدنية ما، بصورةٍ جديدةٍ أو مختلفةٍ، الأمر الذي يمنح مهمّة "إعادة الإعمار وبرامج التعافي الاقتصادي"، الواردة في البند الرابع من القرار 2803، مضموناً غامضاً جداً.
ومن البديهي أنّ "إعادة التنمية" مصطلح مألوف لدى ترامب، الذي دأب على استعراض مهاراته كرجل أعمال مختصّ بتطوير العقارات، وكان مما قاله للصحافيين، بحسب قناة CNN في 21/1/2025: "نظرت إلى صورة غزة – غزة أشبه بموقع هدم هائل. هذا المكان، في الواقع، يجب إعادة بنائه بطريقة مختلفة".
تقول وسائل الإعلام الغربية إنّ ترامب سيرأس شخصياً "مجلس السلام" الذي سيشرف على عملية "إعادة تنميتها"، ونزع سلاحها، وتشكيل "سلطتها الانتقالية"، و"قوة الاستقرار الدولية" فيها، والتي سيتمتع عناصرها بـ "امتيازات وحصانات" خاصة، كما نفهم من البند الرابع من القرار 2803.
ويخوّل القرار 2803 "مجلس السلام" المذكور صلاحيات انتدابية على قطاع غزة حتى نهاية عام 2027، قابلة للتمديد، بحسب البند الثامن للقرار.
تشير وثائق عسكرية أميركية حصلت عليها "ذا غارديان" البريطانية، ونشرت تقريراً عنها في موقعها في 14/11/2025، إلى أمرين:
1) أنّ "قوة الاستقرار الدولية" المزمع تشكيلها في غزة من المفترض أن تتكوّن من قوات أوروبية أساساً، 1500 جندي بريطاني، زائداً ألف فرنسي، وقوات من ألمانيا وهولندا وبلدان أوروبا الشمالية، إضافةً إلى الأردن، على أن يبلغ حجم تلك القوة في المحصّلة 20 ألفاً.
أما القوة الشرطية الفلسطينية المزمع تشكيلها، فسيبقى دورها محدوداً، وستبدأ بـ 200 مجنّد، لتصل في المحصّلة إلى 3000 أو 4000.
2) أنّ المشروع الاقتصادي يقوم على فصل غزة إلى قسمين، منطقة خضراء وأخرى حمراء، يفصل بينهما خطٌ أصفرُ. أما الخضراء، فهي تلك التي ستبقى فيها قوات الاحتلال الصهيوني والتي ستخدم "قوة الاستقرار الدولية" إلى جانبها، وهي التي ستجري تنميتها اقتصادياً بناءً على رؤية ترامب. أما الحمراء، فهي التي ستبقى جاثمةً في الدمار والركام، والتي لن تتمّ تنميتها، حتى يقتنع سكانها بمغادرتها "طوعاً"، أي أنّ مشروع "إعادة التنمية" هو مشروع تهجير في الآن عينه.
تلاحظ "ذا غارديان" في تقريرها الخطوط المتوازية بين المنطقة الخضراء في غزة وأختيها المأفونتين في بغداد وكابول، واللتين فشلت تجربتهما فشلاً مريراً.
لكنّ الحبكة في التقرير، والتي لم يلتقطها واضعوه، هي أنّ الجيش الأميركي يراهن على انتقال النازحين الفلسطينيين من المنطقة الحمراء إلى الخضراء، أي أن تشكّل الخضراء حافزاً اقتصادياً للقبول الجماعي بالاحتلال الصهيوني والدولي، وبتفضيله على شظف العيش فوق الأنقاض وبينها، أو هكذا يسوّق المشروع إعلامياً على الأقل.
في المقابل، يقتل العدو الصهيوني الغزيين الذين يقتربون مجرّد اقترابٍ من الخط الأصفر في محاولة للعودة إلى بيوتهم، أو لأخذ بقايا أغراضهم منها. كما أنّ المشروع المعلن لليمين الصهيوني الحاكم ليس "إعادة تنمية" شرقي غزة للغزيين، بل لتوسّع صهيوني جديد، هو جزء من مشروع "إسرائيل الكبرى" في المحصّلة.
إنّ معظم الغزيين موجودون في ما يسمّى "المنطقة الحمراء" الآن، ومن السذاجة بمكان الاعتقاد أنّ الكيان الصهيوني سيسمح بإعادة بناء شرقي غزة، ولو بمعايير ترامبية، كي يسلّمها للفلسطينيين، مهما كان توجّههم السياسي أو موقفهم من التسوية مع العدو الصهيوني.
نجد مزيداً من التفاصيل بشأن هذا المشروع في تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" في 2/9/2025، بعنوان "خطة غزة ما بعد الحرب تتصوّر الانتقال الطوعي لكامل سكانها"، وتقول الفقرة الأولى في ذلك التقرير ما يلي:
"خطة غزة ما بعد الحرب التي يجري تداولها داخل إدارة ترامب، والتي جرى تصميمها بناءً على تعهّد ترامب بـ "السيطرة" على الجيب، من شأنها أن تضعه تحت وصاية الولايات المتحدة لمدة 10 سنوات على الأقل، بينما يجري تحويله إلى منتجع سياحي ساطع، وإلى مركز تصنيع وتكنولوجيا عالية التقنية".
تقع تلك الخطة في كتيب من 38 صفحة، وهي تنصّ بوضوح على انتقال الغزيين إلى بلدٍ ثالثٍ، أو إلى محميات محظورة في مناطق إعادة الإعمار. كما تنصّ على منح الغزّي الذي "يختار" مغادرة القطاع 5 آلاف دولار، زائداً دعم سكن في بلدٍ ثالث لمدة 4 سنوات، ودعم غذاء لمدة سنة واحدة. ويرى واضعو التقرير أنّ ذلك سيكون أقل كلفةً من الإقامة في المحميات!
يضيف تقرير "واشنطن بوست" أنّ المخطّط وضعه "إسرائيليون" كانوا أيضاً خلف مشروع "مؤسسة غزة الإنسانية" التي توزّع المساعدات في 4 نقاط في غزة (وتقتل الغزيين وهم يسعون للحصول عليها)، وأنّ دراسة الجدوى تظهر عائداً بمقدار 400 بالمئة على استثمار مقداره 100 مليار دولار، أي 400 مليار دولار، خلال عشر سنوات.
أما المال المستثمر فسيُسحب كقروض بضمانة 30% من أراضي غزة المملوكة ملكية عامّة، والتي ستؤول تلقائياً إلى الصندوق المشرِف على "إعادة تنمية" القطاع... أي أنّ المشروع يتضمّن مصادرة 30% من أراضي غزة منذ البداية، ناهيك بالأراضي المملوكة ملكية خاصة والتي سيعطى أصحابها "رمزاً رقمياً" a digital token يمكن صرفه لتمويل حياة جديدة في بلدٍ ثالث، أو في مقابل شقة في إحدى المدن الذكية الست، المدارة بالذكاء الاصطناعي، والتي سيجري تشييدها في غزة.
تذَكّر "واشنطن بوست" بتصريح ترامب في 10/2/2025 بأنّ الغزيين لن يعودوا إليها بعد إعادة إعمارها، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة، ودفع المسؤولين في إدارته إلى إعادة صياغة تلك التصريحات بأنّ الغزيين يجب أن يغادروها "مؤقتاً" فقط، سوى أنّ ترامب أعاد التأكيد بعدها بأسبوع فقط أنّ "من يعيشون في غزة الآن سوف يعيشون بصورة جميلة في مكانٍ آخر".
والآن تجري إعادة صياغة "مؤقتاً" إلى "طوعاً"، تحت وطأة الدمار والحصار.
لا أشارة في ذلك المشروع إلى "دولة فلسطينية" بعد سنوات الوصاية الأميركية العشر، بل إلى "كيان فلسطيني" غير معرّف يجب أن يكون بالضرورة جزءاً من "الاتفاقيات الإبراهيمية".
في السياق الجيوسياسي، يشير تقرير "واشنطن بوست" إلى الآتي: "تتحدّث الخطة عن موقع غزة عند مفترق طرق ما سيصبح منطقة "موالية لأميركا"، ما يمنح الولايات المتحدة إمكانية الوصول إلى موارد الطاقة والمعادن الحرجة، ويجعل غزة مركزاً لوجستياً للممر الاقتصادي بين الهند و"الشرق الأوسط" وأوروبا الذي أعلن عنه للمرة الأولى أثناء إدارة بايدن، لكنْ الذي خرج عن مساره نتيجة الحرب بين "إسرائيل" وغزة".
لا يقتصر هذا المشروع على غزة إذاً، بل تشير الورقة التي تستند إليها "واشنطن بوست" إلى أنّ غزة مركز تجاري إقليمي يقع على مفترق طرق الطريق البحري القديم (مصر => غزة => بابل)، وطريق تجارة البخور (الهند => اليمن => شبه الجزيرة العربية => أوروبا). وأنّ غزة "يمكنها أن تزدهر من جديد في قلب البنية الإقليمية الموالية لأميركا".
في السياق ذاته، وتحت العنوان الفرعي "الرؤيا الإقليمية لغزة لعام 2035"، تشير الورقة إلى:
أ – مشاريع كبرى في مصر والسعودية وعبر المنطقة.
ب – استغلال 1.3 ترليون دولار من المعادن النادرة غربي السعودية.
جـ - بؤر مالية وتجارية معولمة في الإمارات.
د – بنية تحتية للتواصل على طريق الهند-أوروبا (عبر منطقتنا طبعاً).
هـ - بؤر عسكرية وتقنية معولمة في "إسرائيل".
فما علاقة غزة بذلك كلّه؟ في سياق صراع دولي وإقليمي محتدم ضدّ الأحادية القطبية؟
يقول التقرير إنّ غزة يمكن أن تتحوّل إلى مركز متوسطي للتصنيع والتجارة والبيانات والسياحة، مستفيدةً من موقعها الجغرافي، وإمكانية الوصول إلى الأسواق (أوروبا، ودول مجلس التعاون الخليجي، وآسيا)، ومواردها، وقوتها العاملة الشابة، وكلّ ذلك بدعم من التكنولوجيا الإسرائيلية واستثمارات دول مجلس التعاون الخليجي.
المشاريع الكبرى التي يجري الحديث عنها تتضمّن إقامة إيلون ماسك مصانع لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية، ولتجميع تلك السيارات، باستخدام اليد العاملة الرخيصة للغزيين الذين يبقون في القطاع، وباستخدام، والرجاء التركيز جيداً هنا، حقول الغاز (مارين 1 ومارين 2) مقابل الشاطئ الغزي!
والطرافة في الأمر أنّ ذلك كلّه مبنيٌ على السيطرة على غزة، وعلى نزع سلاحها، وتهجير سكانها، وأنّ ذلك يُقدّم كمشروع "تنموي"، في حين أنه مشروع للهيمنة على المنطقة برمّتها، وأسخف ما في الأمر أنّ الأنظمة العربية والإسلامية تجاري ذلك كلّه خنوعاً أو توطؤاً. وصودف أنّ إخضاع بؤر المقاومة في المنطقة هو مجرّد تفصيلٍ هامشي من أجل تحقيق هذا المشروع.
هل عرفنا الآن لماذا توجّست الصين وروسيا من القرار 2803، ولم تؤيّداه، على الرغم من علاقة كليهما الوطيدة مع "إسرائيل"؟
وكما قال الناشط الأميركي بن نورتون، الذي يعود له الشكر في لفت النظر إلى هذا التقرير الخطير في برنامجه "تقرير الاقتصاد الجيوسياسي"، في الحلقة المعنونة "خطة ترامب الحقيقية لغزة"، المنشورة في موقع يوتيوب في 17/11/2025:
"إنهم لا يبحثون وقف إطلاق النار، إذ لا يوجد وقفٌ لإطلاق النار. إنه مزيّف. إنهم يبحثون مخطّطات استعمار غزة، بالنيابة عن الشركات الأميركية. وهذا هو ما يقوم به الوسيط جاريد كوشنر، صهر ترامب".
يخطئ من يظنّ أنّ مثل هذه المخطّطات تقتصر على غزة، إذ من المؤكّد أنّ مراكز الأبحاث المرتبطة برأس المال المالي المتصهين تعمل على مثلها لجنوبي لبنان وسوريا، في سياق مشروع "إسرائيل الكبرى".
إبراهيم علوش - مؤلف وأستاذ جامعي