يوم موت الشعوب!
الاشراق | متابعة.
من كان يتخيل أن يتم انتخاب رئيس أمريكي، يتحكم في السلاح النووي ويرسم السياسة العالمية، بمواصفات دونالد ترامب، بل ليس انتخابه فقط، بل وإعادة انتخابه لمرة ثانية مع استمرارية، وإن كانت متخلخلة، لشعبية قوية غريبة؟ في زمن سابق، حين كانت البشرية «أكثر طبيعية» وأكثر قابلية للتكهن، مع التحفظ على المعنيين، ما كان لشخص مثل ترامب أن يحلم بكرسي البيت الأبيض مع كل فضائحه وقضايا الفساد المالي والجنسي القائمة ضده وصورته الرأسمالية الجشعة التي لا ترحم وكلامه الذكوري الشوفيني البشع وتعامله المهين مع الكثير من ضيوفه، ونطقه لتصريحات مريبة كارثية وتوجهاته العنصرية البيضاء، وتحيزه ضد الأجانب والمهاجرين في بلد أسسه أجانب ومهاجرون، بل وحتى مع مزحاته المهينة العنصرية والغبية في كثير من الأحيان. ذات زمن، كان شيء واحد من أي من هذه الابتلاءات اللفظية أو الفكرية أو السلوكية كافياً للقضاء التام والنهائي على أصغر سياسي في أمريكا -دع عنك سياسياً مرشحاً لرئاستها- وللجلوس في بيتها الأبيض. فما الذي تغير؟ وكيف مرت أبشع عقلية من أصعب بوابة سياسية؟
هناك الكثير من التحليلات السياسية والسيكولوجية حول الداخل الأمريكي الذي قبل برجل مثل ترامب، ووضعه على أعلى كرسي سياسي عالمي. وهي تحليلات تتناول في جانب منها، التعلق الغربي العصابي الحديث «بالصوابية السياسية»، وأن المبالغة في هذا الاتجاه أدى إلى حدوث عنصرية عكسية تجاه البيض والأغلبيات السياسية والاجتماعية في الداخل الأمريكي. يقول بعض المحلليين إن وجود ترامب في مركز القوى الأهم أعاد الصوت والثقة لأغلبية متهمة طوال الوقت، وخفف لديهم الشعور بالذنب والحاجة للتكفير عن خطايا لربما لم يرتكبوها. ترامب قدم كذلك «نسمة منعشة» من الحديث التلقائي الصريح غير المنمق، ولأول مرة، يقول بعض المحللين، يتحدث شخص جالس على الكرسي الأبيض بهذا الكم من الصراحة والأريحية.
كل هذا لا يتعدى كونه كومة نفايات، لأكون صريحة كصراحة ترامب واستخداماً لأسلوبه؛ ففي رأيي، لا علاقة حقيقية وصلبة لغرائبية وسيريالية وجود ترامب في البيت الأبيض «بمظلومية» الرجل الأبيض، ولا بتململ الناس من دبلوماسية السياسيين. الحقيقية، أن الوجود الترامبي مؤشر لانقلاب عالمي، أكبر من البيت الأبيض، على الديموقراطية ومفاهيم الحقوق الإنسانية وحكم الشعوب لأنفسها. هناك على ما يبدو تحالف سياسي حكومي عالمي ضد الشعوب وضد مفاهيم الحريات والحقوق الإنسانية والديموقراطية، هناك موجة مرتدة ستحملنا جميعاً من العصر الحالي عودة إلى العصور الوسطي، وستتحقق هذه العودة على وقع أرقام ولوغاريتمات الذكاء الاصطناعي، الذي يبدو أنه اليوم مع الجانب الحكومي وفي خدمة ديكتاتورياته.
غزة مؤشر، الفاشر مؤشر، الكونغو مؤشر، سوريا مؤشر، العراق مؤشر، أوكرانيا مؤشر، بل والداخل السياسي لكل دولة من دول العالم مؤشر على موجة الديموقراطيات المرتدة، وعلى التراجع العالمي الشعبي لصالح التقدم الحكومي العسكري، وعلى كيف أن العون الذي توقعناه من التكنولوجيا الخارقة الحالية انقلب فرعوناً يراقبنا ويرصد تحركاتنا، بل ويخلق لنا التهم المصورة والمسموعة الكفيلة بتغييبنا إذا ما أرادت القوى المتحكمة حول العالم. مع الاعتراف بفضلها في الكشف عن المستور من القضايا والجرائم ونشر الحقائق ومحاربة التعتيم، يبقى أن التكنولوجيا المتمثلة في مواقع التواصل والذكاء الاصطناعي ووسائل المراقبة والتنصت وغيرها مما نعرف ولا نعرف من الوسائل المتطورة كلها، قد حولتنا إلى مستهلكين مغيبين مدمني الصوت والصورة المسجلة، كلها مسخّرة اليوم للتجار والحكومات والساسة، مكرسة لمراقبة الأفراد ورصد عاداتهم وتحركاتهم وتوجهاتهم، موجهة لإعادة برمجتهم، لتقليل درجة الانتباه ومقدار الذكاء ولرفع درجات الإدمان والتغييب تلاعباً في الهرمونات الجسدية والإشارات العصبية في الأجساد تمهيداً للتحكم التام فيها.
نعم، ستكون هناك «روبوتات» في الزمن القريب، لكنها في الغالب ستكون روبوتات بشرية جاهزة، ستكون هذه الروبوتات أجسادنا، بعد أن تحتل البرمجة الرقمية عقولنا وتحولنا إلى أدوات موجهة ومعدة لخدمة المصالح العليا. نحن نسير في نفق طويل سنصل في آخره إلى نور ساطع، نور سيبرق في متاجر ومصانع وحسابات بنوك الأغنياء، سيبرق في المباني الحكومية المصقولة والقاعات الملكية اللامعة التي سيحيا فيها ديكتاتوريو العالم. العالم الرقمي والتكنولوجيا ونحن كلنا، سنكون في خدمة المال والسياسة، كلنا كبشر سنكون أسرى مسيرين حرفياً بقيود إلكترونية رقمية على عقولنا ووعينا، وكل المنى أن نصل، حين نصل لهذه المرحلة، دون وعي كامل منا ودون انتباه لما سيؤول إليه مصيرنا المظلم في آخر النفق المنير الساطع.
قاعات نظيفة بيضاء محكومة من أشخاص يقتربون من شمولية مقدسة لا طاقة للشعوب العادية على مقاومتها أو صدها، وقصور لأثرياء معلقة في السماء بين الغيوم، أثرياء يمتلكون من المال ما تفوق كمياته استيعاب البشر، مال قد يشتري في المستقبل القريب الزمن والعمر والصحة وحتى الجينات المثالية والأقدار السعيدة ولربما الخلود كذلك، شوارع مدججة بالكاميرات، وسماءات مسلحة بطائرات مسيرة، وشعوب مكبلة مرقّمة متشابهة الشكل والملبس والقول والفعل، وخوف يملأ الهواء ذائب في الماء مشل للحركة والتفكير والشعور… هكذا أرى العالم في قريبه العاجل، الذي ستحتفل في أنحائه بشرية مخدرة مسيّرة بيوم تنصيب ترامب رئيسياً لأمريكا كذكرى تأسيس هذا العالم الجديد. هكذا أرى المنظر في آخر النفق، هل ترونه كذلك؟
تدوينة للكاتبة د. ابتهال الخطيب
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.