ما زلت هناك مع الأسرى!

الاشراق | متابعة.

ما زلت هناك معهم.. أصحو على إيقاع عذاباتهم، وأسير برفقتهم أسيراً في أوقاتهم. لا.. لم أتحرر بعد، إذ ثمة بقية مني بقيت هناك في أعماق التوحش الاستعماري. أخوتي ورفاقي الأسرى.. عذراً لأنني أكتب هذه الكلمات الآن، لأنها لن تصلكم أنتم المعزولين عن العالم، هذا العالم الذي أحيا به الآن سعياً مني وراء إنجاز ما تبقى من حريتي المشتهاة، فلا حرية مكتملة من دونكم.
ليس ثمة معنى إن لم تكونوا معنا في عالم، لا أعدكم بأنه سيصغي لآلامكم.. لأنين أرواحكم وأجسادكم أنتم الذين تعانون الآن من سياسات القتل الاستعماري المبتكرة، وأنا الذي كنت معكم.. ما زلت معكم.. أعبر تقاسيم الوقت.. أشعر بالبرد. بالجوع. بالحرمان. وأقسو على المنفى بتفاصيل المعتقل وأقول ما زلت هناك.
أخوتي ورفاقي أنتم، وأنتم الأمل المنبعث من طهر أنفاسكم، ها أنا أكتب الآن لكم.. أكتب عنكم.. وأبحث في اللغة لغتي عن كلمات قادرة على حمل معاناتكم في هذا الواقع العبثي المزدحم بمنفىً وضجيج وصراخ، وتهالك الوقت على الوقت في مواجهتي، أنا العائد من عذابات قيامة استعمارية، ما زلتم أنتم تعانون منها، ولكنكم في الوقت ذاته تقاومون. بلى أنتم أحياء وتقاومون وتصمدون في وجه العنصرية وعته سياساتها. تعدون حبات الأرز وفتات الخبز سعياً وراء البقاء والتشبث بأمل التحرر، وترتدون الخرق البالية والممزقة على مشارف صقيع جعلكم تكرهون الشتاء، لأنه بات شتاء استعماريا متواطئا مع السجان، ولكنكم تحبون الدفء حين يتسلل إلى قلوبكم المرهفة، إذ تلتصقون ببعضكم بعضا، لتنبعث الإرادة من الحديد وصدئه والزنزانة وصقيعها. تعتنقون الدفء أنتم.. دفء الحياة والتكاتف ومعادلة الصمود إما أن نحيا، وإما أن نحيا، فلا تهنوا الآن فالهوان موت استعماري مخيف.
بلى.. ما زلت معهم هناك، وما بين هنا وهناك أنثر الكلمات في وجه كل هذا العالم، عالم يعاني من الفصام والأزمات الأخلاقية، عالم يدعي الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، قرن العوالم الافتراضية والمشاعر الإلكترونية والذكاء الاصطناعي الذي ينقلب غبياً، حين أسأله هل تعلم أن هناك أسرى لا يعلمون كم الساعة الآن؟! أسرى يجوعون الآن لا لأنهم قرروا الالتحاق ببرنامج حمية غذائية لإنقاص الوزن، بل لأن ثمة سجانا اقترف سياسة تجويعهم وحرمانهم من الطعام. هل تعلم أن الأسرى لا يعلمون ما إذا كانت أسرهم قد أبيدت إثر الإبادة الجماعية التي تمارس الآن بحق الشعب الفلسطيني، الذي يعاني من الإقصاء والإزالة؟
أرجوك أيها الذكاء الاصطناعي أكتب لي قصة عن الحرمان.. عن الفاشية.. عن تداعي الإنسانية. ما زلت هناك معهم.. غير أنني أعود قليلاً إلى هنا.. هنا حيث تفاصيل الحرية الصغيرة، التي صمدت أنا عمراً بأكمله لأتحد بها ولا أعود إلا لأشفي قلبي من ندوب السجان المستعمر، الذي لطالما سعى نحو اختراق وكي وعي الإنساني. أعود لأحتفي بحريتي، وإن كانت لم تزل طفلة، ولكنها طفلة واعدة وتشي بالحياة والتحرر والأمل والإنسانية.
في هذا الصباح.. صباح القاهرة البهية أكتب لأخوتي الأسرى، لعل كلماتي تخترق أسوار المعتقل وعتمة الأقبية ودهاليز الزنازين.. أكتب لأكثر من تسعة آلاف حلم وأمل وقلب وحياة. ما أجملكم أخوتي بالأمس واليوم وغداً، وغداً هو زمنكم المقبل لا محالة، ما أجملكم وأنتم تصمدون في وجه سياسات التنكيل والتعسف والتوحش والتعذيب والحرمان والعزل والإهمال الطبي والتأنيب النفسي والاعتداء اللفظي والجسدي، وأنا.. أنا كنت هناك معكم والآن هنا أقبل أرواحكم وأسعى لأكون صوتكم رغم ضوضاء عالم يعاني من شح في الإنسانية.
أحبتي الأسرى أكتب لكم.. أكتب عنكم.. معبأ أنا بكم فاعذروني لأنني أكتب الآن ومعي قلم وأوراق بلا خوف من أعين السجان وملاحقته ومصادرته لكلماتي، فأنا أعلم أنهم ما زالوا يحرمونكم من أدوات الصمود والبقاء، القلم.. الورقة.. الكتاب.
اعذروني لأنني بعد قليل سأضطر لتناول بعض الطعام واحتساء قليل من القهوة، بعد قليل سأتجول في القاهرة حراً بلا سجان يقتادني من الأمام وآخر يقيدني من الخلف، اعذروني لأنني أسير الآن بلا غطاء على عيني وقيود على معصمي وقدمي.. اعذروني لأنني أرتدي ملابس نظيفة وأنيقة، ولا أحك جلدي بجنون لأنني لست مصاباً بالجرب والفطريات الجلدية.. اعذروني لأنني لم أخبئ قطعتين من الخبز اليابس والمتعفن لكي أتناولهما صباحاً.. اعذروني لأنني لم أخطط كيف سأخدع أمعائي الخاوية بالماء.. الكثير من الماء. اعذروني لأنني بت أعلم ما هي أحوال وأخبار أسرتي ومن عاش منها ومن مات.. اعذروني لأنني أسير متجولاً في شارع بلا حراس ولا سجانين ولا قنابل غازية ولا صوتية.. اعذروني لأنني شعرت بتوعك صحي بالأمس فذهبت لطبيب عالجني.. اعذروني الآن أكثر لأنني لم أصغ لرسائلكم التي طالبتموني عبرها بأن أحيا الحرية بكل ما أوتيت من قوة وحياة.
حسناً.. سأحياها قليلاً ولكني لن أحياها عنكم فأنتم أملي المنشود ووجهي الإنساني المعهود الذي سيشرق قريباً شمساً من الحرية والوطن.

باسم خندقجي - كاتب فلسطيني.

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.