سوريا المُمزقة: إدارة أميركية لصراع النفوذ بين أنقرة و"تل أبيب"
الاشراق | متابعة.
منذ سقوط نظام بشار الأسد في أواخر عام 2024، دخلت سوريا مرحلة غير مسبوقة من إعادة التشكّل الجيوسياسي، فقد انهارت بنية الدولة المركزية، وتحوّلت البلاد إلى ساحة لتقاطع مشاريع القوى الإقليمية، وفي مقدمتها تركيا و"إسرائيل"، اللتان أصبحتا الفاعلين الأبرز في تحديد مصير الأراضي السورية وموقعها من معادلة الشرق الأوسط الجديدة.
لكن بينما جمعت بين أنقرة و"تل أبيب" مصلحة مشتركة في إسقاط النظام القديم وإنهاء النفوذ الإيراني المباشر، سرعان ما برزت تناقضات بنيوية في تصور كل طرف لمستقبل سوريا، وفي حدود النفوذ المسموح به فيها.
تركيا من العمق الاستراتيجي إلى الوصاية المباشرة
منذ الأشهر الأولى التي تلت سقوط الأسد، تحركت تركيا بسرعة لتثبيت حضورها العسكري والسياسي في الشمال السوري، وذلك من خلال المجالس المحلية الموالية لها، والتعليم التركي الجزئي، وانتشار قواتها على طول خطوط منبج–الباب–إدلب. وبهذا أصبحت أنقرة الحاكم الفعلي في شمال سوريا، خاصة إذا أُخذت الأعلام التركية المرفوعة في الشوارع بعين الاعتبار.
وترتكز استراتيجية أنقرة الجديدة على ثلاث ركائز رئيسية:
أ- إقامة منطقة نفوذ دائمة تمتد من حدودها الجنوبية حتى حدود محافظتي حماة وحمص، لتكون مجالاً للنشاط الاقتصادي والأمني، وحيّز حركة يسمح بمزيد من الدعاية الأيديولوجية.
ب- بناء مؤسسات ظلّ تحمل طابع الدولة، لكنها تابعة إدارياً واقتصادياً لأنقرة، ما يضمن ارتباطاً طويل الأمد بين شمال سوريا والبنية التركية.
ج- تحويل سوريا إلى دولة حاجز (Buffer State) عند الفوضى الإقليمية، وبوابة اختراق للعالم العربي عند الاستقرار.
وتدرك الإدارة الأميركية جيداً أن سوريا تُعدّ أهم مكاسب حزب العدالة التنمية التركي، ورؤيته التي شُيّدت على أساس استعادة "الأمجاد العثمانية"، وقد عبّر دونالد ترامب عن ذلك في أكثر من مناسبة، أهمها في إبريل/نيسان الماضي، حين قال أنه أبلغ الرئيس التركي تهانيه، مؤكداً أنه فعل ما عجز عنه الآخرون، وأنه "تمكّن من سوريا عبر وكلائه"، ولعلّ هذا الثناء الأميركي على الدور التركي في سوريا، كان مقدّمة للضغط على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، لخفض سقف طموحاته، وتبسيط مطالبه، كي تتمكن واشنطن من إدارة أي مشكلات بين أنقرة و"تل أبيب".
على الجانب الآخر، تنظر "إسرائيل" إلى سوريا بعد الأسد كمسألة أمنية بحتة، لا كدولة يمكن إصلاحها أو إعادة بنائها، فمن منظور "تل أبيب"، فإن أيّ دولة سورية مركزية قوية تمثل تهديداً محتملاً طويل الأمد، سواء عبر تحالفها مستقبلاً مع إيران أم في احتضانها لقوى مقاومة. لذلك فإن الهدف الإسرائيلي يتلخص في ثلاث نقاط:
أ- منع عودة مؤسسات الدولة السورية الموحدة، خصوصًا الجيش وأجهزة الأمن.
ب- إبقاء الجنوب السوري منطقة رخوة خاضعة لسيطرة ميليشيات محلية، وبذلك تضمن "إسرائيل" مجالاً أمنياً يمتد حتى درعا والسويداء.
ج- تعزيز الوجود الكردي في الشرق والشمال الشرقي كوسيلة لتقسيم المجال السوري وإضعاف أي مركز وطني جامع.
هذه الرؤية تتلاقى جزئيًا مع الاستراتيجية الأميركية القديمة القائمة على "إدارة الفوضى"، لكنها تتناقض مع المقاربة التركية التي ترى ضرورة وجود مؤسسات محلية قوية (تحت إشراف أنقرة) لضمان الاستقرار.
التناقض التركي–الإسرائيلي: "ممر داوود" مقابل "العمق العثماني"
رغم تقاطع المصالح التركية والإسرائيلية في إسقاط النظام السابق، فإن مرحلة ما بعد الأسد كشفت عن صدام استراتيجي بين المشروعين، فتركيا تسعى إلى إنشاء كيان سوري تابع إدارياً واقتصادياً لها، يحتفظ ببعض سمات الدولة لتبرير نفوذها في المحافل الدولية بينما تريد "إسرائيل" إلغاء فكرة الدولة السورية تماماً، وتحويلها إلى فسيفساء من الكيانات المحلية المتناحرة.
وفي حين تدفع "إسرائيل" باتجاه ما يسميه بعض مراكز تفكيرها "ممر داوود"، وهو نطاق نفوذ يمتد من الجولان على طول الحدود العراقية السورية، ثم يعبر نهر الفرات وصولاً إلى المناطق الكردية، ومن الطبيعي أن ترى تركيا في ذلك تهديداً مزدوجاً لأمنها القومي بسبب الدعم الإسرائيلي للكرد من جهة، ولمشروعها الإقليمي الذي يقوم على توحيد شمال سوريا ضمن "الفضاء التركي" من جهة أخرى.
هكذا تحولت سوريا إلى ساحة تنافس مباشر بين أنقرة و"تل أبيب": الأولى تريد إعادة هندسة الدولة، والثانية تريد محوها بالكامل.
تركيا ضمن المعادلة الأميركية
بعد سقوط نظام الأسد، أعاد دونالد ترامب صياغة رؤيته لدور تركيا في الشرق الأوسط، فبينما حافظ على التزامه المطلق تجاه التحالف مع "إسرائيل"، أدركت إدارته أن تركيا تمثل الحاجز العملي أمام عودة النفوذين الروسي والإيراني، وأنها قادرة على أداء وظيفة استراتيجية تخدم مصالح واشنطن من دون الحاجة إلى وجود عسكري أميركي مباشر.
ومن دون الذهاب بعيداً للحديث عن دور تركيا في ملاحقة الدور الروسي/السوفياتي في الشرق الأوسط منذ انضمامها إلى حلف الناتو فبراير/شباط 1952، فإن تركيا تحت حكم إردوغان تصدّت عملياً للوجود الروسي في المنطقة خلال العقدين الماضيين في مناسبتين رئيسيتين، فهي أولاً، دعمت المجموعات المسلحة في سوريا على مدار 14 عاماً حتى نجحت في نهاية المطاف في إسقاط النظام العربي الوحيد الذي كان حليفاً لموسكو، وهي ثانياً، في ليبيا، تصدّت لقوات فاغنر الروسية التي كانت حليفة للجيش الوطني الليبي خلال معاركه للسيطرة على العاصمة طرابلس خلال عام 2019/2020، وهذا كفيل بمنحها مكانة مميزة لدى مخططي السياسة الأميركية.
بعيداً من ذلك، فإن تركيا تروّج نفسها باعتبارها الشقيقة الكبرى لأذربيجان، التي بدورها تلعب دوراً رئيسياً في تزويد "إسرائيل" بالغاز، كما أنها تلعب دوراً أخطر ضد إيران، التي تقبع على حدود أذربيجان الجنوبية، من جهة أخرى، وتحت شعارات "وحدة العالم التركي"، فإن أنقرة وجدت مساحة النفاذ والتأثير في وسط آسيا، ومن خلال ملف دعم "الأقليات المسلمة ذات الجذور التركية" تجري مناكفة الصين، في مناطق مثل إقليم شينجيانغ، إذ يجري دعم مجموعات جهادية وانفصالية، وتعتبر تلك المجموعات الأصل الذي انبثقت عنه فصائل الإيغور التي قاتلت في سوريا طوال العقد الماضي.
كل ذلك يجعل واشنطن حريصة على الدور التركي في المنطقة، ولديها مخططات قد أُعدّت على أساس ديمومته ونموه، لذا فرغم التزام الولايات المتحدة الكامل بدعم "إسرائيل"، إلا أن رؤيتها تميل إلى التوازن في الملف السوري، بما يضمن خلق حالة من التفاهم بين مصالح أنقرة وطموحات "تل أبيب". وعلى الأغلب، يدعم الأتراك الرؤية الأميركية، فلا اعتراضات جادة على الدور الإسرائيلي في محافظات الجنوب السوري، ولم يُعلن في أي مناسبة عن مشاريع تركية لإعادة بناء وتسليح الجيش السوري، فقط، تصب تركيا اهتمامها بأكمله على ملف الكرد في شمال شرقي سوريا.
خلاصة القول، إن الولايات المتحدة تسعى عبر سياستها في سوريا إلى خلق حالة من التوازن بين "إسرائيل" وتركيا، ومن المستبعد تماماً اندلاع صراع مباشر بين الطرفين، لكن المؤكد أيضاً أن المهمة لن تكون سهلة، نتيجة الحساسية التركية الكبيرة من ملف الكرد، وكنتيجة أيضاً لتعنّت الحكومة الإسرائيلية في ظل سيطرة اليمين الصهيوني على مفاصلها.
على الأغلب، ما يُسهّل مهمة مبعوثي واشنطن هو الالتفاف الخليجي حول أحمد الشرع، الرئيس الانتقالي لسوريا. فهو يحظى بدعم أنظمة خليجية تتبنى رؤى متعارضة، لكنها تتوحد في معاداة محور المقاومة بزعامة طهران، وقد نجح الشرع في تقديم نفسه كبديل نقيض لهذا المحور، ما مكّنه من حصد دعم الأطراف العرب النفطيين. كما أن هناك توجهاً أميركياً مستتراً يسعى إلى دعم نموذج "الشرع" كـ"نموذج ناجح للربيع العربي"، يمكن الاستثمار فيه وتسويقه إقليميًا إذا استدعى الأمر.
للكاتب السيد شبل
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً