كيف تغيّر الشاشات طريقة عمل أدمغتنا؟
الاشراق | متابعة.
ذلك التمرير اللامتناهي قبل النوم، والرغبة المستمرة في التحقق من الإشعارات، والضباب الذهني الذي يغمرك عندما ترفع عينيك عن الهاتف، ليست مجرد عادات رقمية عابرة، بل علامات على دماغ نسي كيف يستريح.
يحذّر علماء الأعصاب اليوم من ظاهرة جديدة تُعرف باسم «متلازمة دماغ الفشار» (Popcorn Brain Syndrome)، إذ يؤدي التعرّض المستمر للشاشات إلى تحفيز مفرط للعقل يجعله مدمناً على الإيقاع الرقمي السريع. ويقول تقرير نشرته صحيفة The Times of India إن هذه الحالة تدفع الدماغ إلى البحث الدائم عن التنبيه الفوري حتى عندما يكون الشخص بعيداً من أجهزته، فتقلّ قدرته على التركيز، ويضعف صبره، ويصبح من الصعب عليه الاستمتاع بالأنشطة البطيئة كقراءة كتاب أو خوض حوار عميق.
ما الذي يحدث داخل الدماغ؟
تشير دراسة منشورة في مجلة Frontiers in Psychiatry عام 2021 إلى أن الاستخدام المفرط للهواتف الذكية يرتبط بتغيّرات في الانتباه وتنظيم المشاعر، وحتى في بنية الدماغ نفسها، خاصة لدى المراهقين والشباب.
بمعنى آخر، لا يغيّر الإفراط في الشاشات سلوكنا فقط، بل يمكنه إعادة تشكيل الدماغ فعلياً، مؤثراً في التركيز والمزاج والتحكم بالسلوك.
لماذا أُطلق عليها «دماغ الفشار»؟
ظهر المصطلح لوصف كيف أصبح العقل الحديث يتوق إلى التحفيز السريع والمتكرر، تماماً كما تتفجّر حبات الفشار واحدة تلو الأخرى.
فالدماغ، الذي اعتاد على الفيديوهات القصيرة والمنشورات المتجددة، بدأ يتوقّع تدفقاً مستمراً من الإثارة الرقمية، ويشعر بالضجر أو القلق في اللحظات الهادئة.
ومع الوقت، يُعاد تدريب الدماغ على تفضيل المحتوى السريع العالي المكافأة، بينما يفقد القدرة على الصبر والتركيز في الأنشطة التي تحتاج إلى وقت وجهد.
هكذا، يتحوّل التركيز العميق إلى مهمة شاقة، ويصبح الهدوء غير مريح.
كيف يفاقم وقت الشاشة المستمر المشكلة؟
كل إشعار أو تمرير على الهاتف يطلق جرعة صغيرة من الدوبامين، وهو هرمون المكافأة المرتبط بالتحفيز والمتعة.
هذا التكرار المستمر يخلق ما يشبه حلقة المكافأة العصبية: كلما تلقّى الدماغ تحفيزاً، أراد المزيد.
لكن بمرور الوقت، يتناقص تأثير الدوبامين ويحتاج الدماغ إلى مزيد من التنبيه ليشعر بالرضى عن نفسه.
فتبدو الأنشطة التي تتطلب تركيزاً، كالقراءة أو الدراسة، مرهقة ذهنياً.
أما التنقّل الدائم بين التطبيقات والمنصات فيُجزّئ الانتباه ويمنع الدماغ من البقاء مركزاً على مهمة واحدة أكثر من ثوانٍ معدودة.
ومع الوقت، يصبح هذا الفرط في التحفيز حالة دائمة، ينتج منها تشتّتاً مزمناً وإرهاقاً ذهنياً مستمراً.
الأثر النفسي والعاطفي
لا يقتصر الأمر على التركيز فقط، بل يمتد إلى الصحة النفسية والعاطفية أيضاً.
كثيرون يشعرون بالقلق أو التوتر عند ابتعادهم عن أجهزتهم، في تجربة تُشبه أعراض الانسحاب من الإدمان.
العقل الذي اعتاد على تدفق المعلومات المستمر يجد صعوبة في التعامل مع الصمت.
هذا التحفيز الزائد يمنع الدماغ من الراحة والتعافي، فيؤدي إلى اضطرابات النوم، والعصبية، والإرهاق الذهني.
ومع مرور الوقت، تتراجع قدرة الشخص على تنظيم مشاعره أو إيجاد الهدوء في داخله.
لماذا المراهقون أكثر عرضة للخطر؟
بحسب The Times of India، فإن المراهقين والشباب هم الفئة الأكثر عرضة لمتلازمة «دماغ الفشار»، لأن أدمغتهم لا تزال في طور النمو وتشكيل المسارات العصبية الأساسية.
القشرة الجبهية الأمامية المسؤولة عن اتخاذ القرار وضبط النفس أكثر حساسية للتحفيز الزائد.
لذلك، يؤدي الاستخدام المكثف للشاشات في هذه المرحلة إلى تدريب الدماغ على البحث عن المكافآت الفورية، ما يصعّب التركيز على الأهداف الطويلة المدى.
وقد أظهرت دراسات عدة أن كثرة الوقت أمام الشاشات ترتبط بتراجع الأداء الدراسي، وضعف التنظيم العاطفي، واضطرابات النوم.
وفي غياب التوازن، يمكن أن تعيد هذه العادات الرقمية تشكيل طريقة تفكير الشباب وشعورهم وتفاعلهم مع العالم.
كيف نستعيد التركيز ونكسر الحلقة؟
الخبر الجيد أن «دماغ الفشار» قابل للعكس، فالدماغ مرن ويمكنه أن يتعلم من جديد كيف يهدأ.
لكن ذلك يتطلب تغييراً واعياً في العادات الرقمية:
حدد أوقاتاً خالية من الشاشات، مثل أثناء تناول الوجبات أو الصباح الباكر.
- إيقاف الإشعارات غير الضرورية.
- تجنّب استخدام الهاتف قبل النوم.
- أخذ فترات استراحة قصيرة خلال اليوم لإراحة الدماغ وإعادة ضبط الدوبامين.
- ممارسة أنشطة تُعيدك إلى الإيقاع البطيء: التأمل، الكتابة، أو قضاء وقت في الطبيعة.
الهدف ليس الابتعاد التام عن التكنولوجيا، بل بناء علاقة صحية ومتوازنة معها، تُعيد التركيز إلى مكانه الطبيعي وتخفف التحفيز المفرط.
«متلازمة دماغ الفشار» ليست مجرد مصطلح عصري، بل تحذير من الطريقة التي تغيّر بها التكنولوجيا أدمغتنا فعلياً.
فالتعرّض المستمر للشاشات يُضعف التركيز، ويزعزع التوازن العاطفي، ويترك الدماغ في حالة قلق دائم حتى في لحظات الصمت.
لكن الدماغ قادر على الشفاء. بقليل من الوعي والانضباط، يمكننا إعادة ضبط عقولنا وتذكيرها بكيفية الهدوء والتركيز من جديد.