لماذا فشلت أوراق الضغط العربية أمام ترامب؟

الاشراق | متابعة.

منذ السابع من أكتوبر 2023، تحوّلت حرب غزة إلى اختبار قاسٍ لقدرة الدول العربية على التأثير في مواقف الولايات المتحدة.

فخلال عامين من العدوان المتواصل على مليوني فلسطيني، تعاقبت إدارتان أميركيتان مختلفتان في التوجّه والأسلوب، لكنّ الموقف من الحرب بقي ثابتاً ألا وهو دعم غير مشروط لـ "إسرائيل" سياسياً وعسكرياً وإعلامياً. السؤال الذي يفرض نفسه: هل استخدمت الأنظمة العربية فعلاً ما تملكه من أوراق ضغط لتعديل هذا الموقف، أم أنّ العجز لم يكن في الأدوات بل في الإرادة؟

من حيث المبدأ، لا يمكن وضع جميع الأنظمة العربية في سلّة واحدة. إذ إنّ بعضها يفتقر تماماً إلى مقوّمات التأثير السياسي والاقتصادي، ويظلّ طرفاً متلقّياً للسياسات أكثر منه فاعلاً فيها. لكن في المقابل، هناك دول تمتلك ثقلاً اقتصادياً وجيوسياسياً حقيقياً كان يمكن، لو استُثمر بذكاء، أن يترك أثراً على حسابات واشنطن.

التاريخ الحديث قدّم شواهد واضحة على فترات امتلك فيها العرب زمام المبادرة منها على سبيل المثال حظر النفط عام 1973 بقيادة الملك فيصل، أو الموقف السوري الصلب من الوجود الأميركي في لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، أو رفض ياسر عرفات التنازل عن القدس رغم ضغوط اتفاق أوسلو عام 1993. هذه المحطات أثبتت أنّ الضغط العربي يمكن أن يغيّر إيقاع الموقف الأميركي، وإن مؤقتاً. لكن هل تغيّر الزمن أم الأدوات؟

الحرب الإسرائيلية التي اندلعت في أكتوبر 2023 واستمرت حتى أواخر 2025 كشفت أنّ معظم الأنظمة العربية لم تذهب بعيداً في اختبار حدود نفوذها. فالدول التي ترتبط بعلاقات استراتيجية مع واشنطن لم تبدِ رغبة حقيقية في وقف الحرب، رغم امتعاضها المعلن من حجم الدمار في غزة. بعض العواصم كانت تراهن ضمناً على إضعاف حركة حماس أو إنهائها عسكرياً، انطلاقاً من حسابات داخلية وإقليمية من أبرزها: طبيعة توجّهات الحركة الإسلامية، قربها من إيران وحزب الله، ورفضها مسار التطبيع الذي تراهن عليه عدة حكومات عربية. ومن ثمّ، لم تتخذ تلك الدول أيّ خطوة تصعيدية ملموسة تجاه "إسرائيل"، لا بتجميد العلاقات ولا بتقليص التبادل الاقتصادي أو حتى وقف التنسيق الأمني. بقيت ردود الفعل في إطار الإدانة اللفظية، بينما كانت المجاعة والدمار في القطاع تتفاقمان.


وحتى عندما أُعلن الاتفاق الأخير في شرم الشيخ لوقف إطلاق النار، لم يكن للعواصم العربية دور حاسم في إنجازه. فالدافع الرئيسي وراء الاتفاق جاء من القلق الأميركي الإسرائيلي من تصاعد العزلة الدولية وتدهور صورة "إسرائيل" أمام الرأي العامّ العالمي، إضافة إلى الإرهاق العسكري الذي أصاب "جيش" الاحتلال. ولو كانت الضغوط العربية مؤثّرة حقاً، لكان الاتفاق ممكناً قبل أشهر طويلة من حدوثه.

شخصية الرئيس الأميركي دونالد ترامب زادت المشهد تعقيداً. فترامب لا يتعامل مع القضايا الدولية كسياسي محترف بقدر ما يتعامل معها كصاحب صفقة تجارية. في فترته الأولى كما في الثانية، اعتمد منطق الصفقات المباشرة والمكاسب الفورية، ولم يُبدِ استعداداً للإنصات لأيّ مقاربة عربية مغايرة للموقف الإسرائيلي. تعامل مع القادة العرب بسطحية أحياناً وبازدراء أحياناً أخرى، واستخدم أسلوب الوعود المتناقضة لتثبيت نفوذه. في إحدى المرات أعلن أنه استجاب لطلب قطري بعدم ضرب إيران، ثم نفّذ الهجوم بعد أيام بلا أيّ مبرّر جديد. مثل هذا السلوك يجعل التأثير الدبلوماسي التقليدي عديم الجدوى.

لكن المشكلة لا تكمن في ترامب وحده، بل في غياب الرغبة العربية في اختبار أدوات الضغط المتاحة. فعندما طلبت إدارة بايدن من السعودية خفض أسعار النفط للضغط على روسيا، رفضت الرياض ذلك علناً. ماذا لو جاء الطلب نفسه اليوم من ترامب؟ هل كانت المواقف ستتبدّل؟ الجواب على الأرجح نعم، لأنّ السياسة العربية لم تبلور بعد رؤية مستقلة ثابتة في التعامل مع واشنطن، بل ما تزال تتحرّك على قاعدة موازنة المصالح الفورية لا المصالح الاستراتيجية.

إلى جانب ورقة النفط، هناك ورقة أخرى أكثر حساسية لم تُستخدم قط ألا وهي العلاقات المفتوحة مع "إسرائيل". فهذه العلاقات التي وُظّفت سابقاً لتسريع مسارات التطبيع كان يمكن أن تُستثمر بالعكس، كأداة ضغط لوقف الحرب أو لتسهيل المساعدات الإنسانية. لكن لم يحدث شيء من ذلك، حتى عندما تجاوزت "إسرائيل" الخطوط الحمر بقصفها أهدافاً داخل دول عربية أو قريبة من حلفائها. الاستثناء الوحيد نسبياً كان التحذير الإماراتي لـ "تل أبيب" من إعلان ضمّ الضفة الغربية، وهو تحذير أوقف الخطوة مؤقتاً، لكنه لم يتطوّر إلى سياسة ردع حقيقية.

تحليل الموقف الإقليمي يكشف أنّ أوراق التأثير لم تختفِ، لكنها جُمّدت عمداً. فالتردّد في استخدامها لا يعود إلى ضعف الموارد أو الخشية من واشنطن، بل إلى تعارض مصالح بعض الأنظمة مع أيّ مسار تصعيدي قد يُعيد خلط الأوراق. كثير من العواصم العربية ترى في استمرار حالة الاضطراب الإقليمي ما يخدم مشاريعها الخاصة القائمة على تثبيت زعامتها، احتواء خصومها، أو الحفاظ على موقعها كوسيط لا كطرف فاعل. لذلك بقي الملف الفلسطيني، منذ اندلاع الحرب، ساحة اختبار لمدى انسجام القول العربي مع الفعل.

لقد أثبتت السنوات الماضية أنّ امتلاك أوراق الضغط لا يعني القدرة على استخدامها. فالنفط، والتطبيع، والاستثمارات، كلّها أدوات تتيح للعرب هامشاً واسعاً للمناورة. لكنّ هذا الهامش يحتاج إلى إرادة سياسية موحّدة، وإلى وعي بأنّ النفوذ لا يُستعاد بالتصريحات بل بالأفعال. وفي ظلّ غياب هذه الإرادة، ستظلّ واشنطن تتعامل مع المنطقة من موقع الطرف المانح لا الشريك، فيما تتكرّر الحروب وتزداد هشاشة النظام العربي عاماً بعد آخر.

الكاتب: يحيى الصادق