تأثير الرسوم الجمركية الأميركيّة على التقلُّبات النقدية
الاشراق | متابعة.
منذ مدّة، تُوالي أسعار الذهب الارتفاع (عادت وانخفضت مؤخّراً بسبب التهدئة التجارية بين الولايات المتحدة والصين)، بفعل عوامل عديدة لا تقتصر على تأثير الرسوم الجمركية الأميركية. فالمعدن الأصفر عادةً، هو أبرز وسيلة بالنسبة إلى المستثمرين للتحوّط من تذبذب سعر صرف الدولار وأسعار الأسهم والسندات الأميركية، لا سيّما في المراحل التي تكون فيها السياسة التجارية للولايات المتحدة، متقلّبة وغير مضمونة على المدَيين المتوسّط والبعيد.
هذا يدفع أكثر باتجاه الذهب، بوصفه ملاذاً آمناً ووسيلةً أفضل من العملة والسندات الأميركية، للادّخار والتحوّط. ولكن حين يعود الدولار وتعود معه أسعار السندات للصعود، أيضاً بفعل عوامل عديدة من بينها مثلاً سياسة أسعار الفائدة، في مراحل الانتقال بين التضخّم والركود، فإنّ جاذبية الذهب تتلاشى تدريجياً لمصلحة الدولار والسندات مجدّداً.
بعد أسعار الذهب، تأتي أسعار النفط كثاني أهمّ محدّد لتأثير التقلّبات التجارية المدفوعة بفوضى الرسوم، ليس فحسب على المواد الأوّلية أو الخام، بل كذلك على سلاسل الإمداد والتوريد التي تدخل هذه المواد في تركيبها، أو حتى السلاسل التي تقتصر عليها، لجهة إمدادات النفط الخام والمشتقّات النفطية. منذ مدّة، تشهد أسعار النفط استقراراً بدفعٍ من سياسة مجموعة «أوبك بلاس» الخاصّة، بتعليق عمليات خفض الإنتاج التي استمرّت لسنة ونصف السنة، بغية دعم الأسعار، على أثر موجة الركود التي أعقبت أزمة الإقفال وتفشّي الفيروس.
الزيادة التدريجية في الإنتاج في أثناء المدّة الماضية، أفضَت إلى انخفاضٍ واضح ومستقرّ في الأسعار، ولكنّ التقلّبات لم تنتهِ تماماً، بتأثير عوامل مختلفة، أهمُّها، بالإضافة إلى الحرب التجارية، زيادة الطلب من عدمه في الصين، منسوب مخزونات النفط في الولايات المتحدة، وغيرها. أيضاً، ثمّة ضغط أميركي متواصل، حتى منذ عهد جو بايدن، على منظمة «أوبك»، لزيادة الإنتاج والتوقّف عن سياسة الخفض وتقليص الحصص، بغية خفض أسعار البنزين في الولايات المتحدة، كون استقرار هذه الأخيرة عند عتبة منخفضة، يسهم في دعم أيّ إدارة موجودة، لا سيّما في أثناء الحملات الانتخابية الرئاسية، وانتخابات التجديد النصفي للكونغرس.
التقاطع بين أثَر فرض الرسوم الجمركية وتقلّبات أسعار المواد الأولية والخام، يحدث عند منعطف محدّد، هو سلوك المستثمرين الذين يتصرّفون حيال التقلّبات الشديدة الحاصلة، بدافعٍ من الخوف على استثماراتهم ورؤوس أموالهم وأرباحهم المحقّقة، فيلجأون فوراً إلى الذهب بوصفه ملاذاً آمناً. ليس خوفاً فحسب، من تأثير الرسوم على النموّ والطلب العالميين، بل لدى أيّ انخفاض في سعر صرف الدولار، ومعه الأسهم والسندات، وهذا نمط شبه اعتيادي في ردّ فعل السوق على التقلّبات، ولكنه وصل مع أزمة الرسوم الجمركية، إلى ذروة غير مسبوقة، بوصفها محصّلة أو تكثيفاً لمجمل الأزمات، التي تعرّضت إليها الأرباح الرأسمالية في السنوات الأخيرة.
تبدو إدارة ترامب، في تكثيفها لتحصيل الرسوم الجمركية من خصومها وحلفائها على حدٍّ سواء، مدفوعةً بالخشية، ليس فقط من فقدان الدولار مكانته كعملة احتياط عالمية بفعل سياسة العقوبات، بل كذلك من ازدياد معدّل تدفّق الثروة، ومعها انسياب السلع والخدمات واليد العاملة جنوباً، بحيث تصبح الأرباح الرأسمالية في المرحلة المقبلة، متركّزة أكثر في دول الجنوب. وهو ما يفسّر العدائية التي يبديها الرجل حالياً، تجاه مجموعة «البريكس»، والتي تجلّت في التصعيد المتكرِّر ضدّها، إن لجهة تهديد الدول المتعاملة معها اقتصادياً برسوم جمركية إضافية في حال لم تَعدِل عن تعاملاتها معها، أو لناحية استهدافها مباشرةً بالحرب التجارية، عبر توسيع نطاق الدول المشمولة بالرسوم، لتشمل اقتصادات «البريكس» بمجملها.
المشكلة في توسيع نطاق الرسوم الجمركية، لتشمل بالإضافة إلى خصوم الولايات المتحدة التقليديين، حلفاءَها في الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، هي أنّ الخفض الذي يبتغيه ترامب، في العجز التجاري مع الدول التي تتبادل تجارياً مع واشنطن، وتحقّق فائضاً على حسابها، سيكون حتى لو حصَلَ التخفيض بالفعل، بثمنٍ فادح. التبعات هنا ستكون كبيرة، ولن تقتصر على هياكل التجارة الدولية فقط، بل ستشمل البنية الخاصّة بالتقلّبات النقدية أيضاً، وما إذا كان ممكناً بعد الحرب التجارية أن تتوافر آليات لاحتوائها وإبقائها عند حدٍّ معيّن، حتى نقدياً، وضمن سياسة أسعار الفائدة، بعدما عطّلت إجراءات ترامب التجارية، آخر الكوابح التجارية والنقدية القادرة على منع التقلّبات من الإتيان على فلسفة التبادلات التجارية، بين الدول برمّتها.
ثمّة منظوران لهذه المسألة؛ الأول يخصّ إدارة ترامب، لا سيّما فريقه الاقتصادي المسؤول عن هندسة سياسة الرسوم الجمركية، وعلى رأسه وزير الخزانة، سكوت بيسنت. فحوى ما يفعلونه يتمحور حول الانتهاء ممّا يعتبرونه عجزاً تجارياً أميركياً كبيراً، تجاه معظم الدول التي تتبادل تجارياً مع واشنطن، حتى تلك النامية منها، والتي لا يتناسب حجم اقتصادها الصغير مع مستوى التنافسية التي وصلت إليها في تبادلاتها مع الولايات المتحدة.
ترامب وبيسنت، يعتبران أنّ ذلك ليس مجرّد عجز تجاري، أو ليس تنازلاً حتى من الولايات المتحدة، عن الندّية في تعاملات تجارية كهذه، بل هي في الأساس «عملية سرقة»، تقوم بها هذه الدول بشكل منظّم، بغرض تكبير حجم أرباحها، مع الفائض التجاري الكبير الذي تحقّقه. هذا بالإضافة إلى انتزاع ميزات تنافسية من الولايات المتحدة، لا يمكن الحصول عليها فعلياً إلا في حقلٍ تكون فيه أميركا، تحت تأثير الميول الديموقراطية لتعزيز حرّية التجارة، قد تنازلت فيه عن سيادتها التجارية، لمصلحة دول أصغر منها اقتصادياً بكثير وأقلّ قدرةً على التصنيع وتصدير المنتجات، ولكنها أكثر مرونةً في تحويل «التلاعب التجاري» الحاصل على شكل تبادلات تجارية مع الولايات المتحدة، إلى نهج تنافسي قانوني، ضمن إطار العولمة وحرّية التجارة، التي باتت تتبنّاها معظم الدول، حتى تلك الاشتراكية منها، سابقاً، مثل الصين.
المنظور الآخر النقيض، هو الذي تتبنّاه الدول التي فُرضت عليها الرسوم، والذي يعتبر ما حصل مساساً، ليس فحسب بمبدأ حرّية التجارة الذي تقوم عليه العولمة وقواعد منظمة التجارة العالمية، بل كذلك تعطيلاً لحرّية انسياب السلع والخدمات عبر العالم، بما يقوّض ليس فقط حقّ الدول في ممارسة التجارة بأسعار تنافسية تتواءم مع قواعد منظمة التجارة العالمية، بل كذلك حقوق الأفراد في الحصول على السلع بأسعار تتناسب مع متوسّط الدخل العالمي، أي بما يكسر احتكار شركات أو دول بعينها لآلية التسعير، بحيث لا تصل منتجاتها إلى المستهلكين في العالم إلا بأسعار تفوق بكثير قدرة هؤلاء على الإنفاق أو حتى تحصيل الدخل.
الفارق بين المنظورين ليس شاسعاً فحسب، بل يُظهِر مقدار التناقض أيضاً، في فهم كلّ من إدارة ترامب، وباقي دول العالم، للقواعد التي تقوم عليها التجارة الحرّة. فبينما يعتبر ترامب، والفريق الاقتصادي المحيط به، أنّ تزايد العجز في الميزان التجاري الأميركي، هو نتاج ممارسة اقتصادية مقلوبة للتجارة الدولية، يذهب جلّ الخصوم والحلفاء، الذين فُرِضَت عليهم الرسوم إلى مقاربة تقول إنّ ذلك العجز طبيعي، لأنّ الاقتصاد الأكبر في العالم، يستطيع تحمّل عجوزات وخسائر مماثلة، لقاءَ عملية التصحيح التي تحصل، بموجب التبادلات القائمة، لهيمنة الدولار على التجارة الدولية.
والمقصود بذلك؛ اعتباره دون غيره من العملات الدولية، بما في ذلك اليورو، محطّ التسعير الوحيد لصادرات الطاقة والمعادن و...إلخ، ومستودع التحوّط العالمي، الوحيد بدوره، رغم كلّ التقدّم الذي أحرزته عملات أخرى في العالم، لجهة درجة موثوقيّتها وقدرتها النقدية التي لا تقلّ عن الدولار، على تسعير جلّ السلع والخدمات المُنتَجة في العالم.
الجديد في الأمر هنا، أنّ الموجة الجديدة من الرسوم، مع تركّزها أكثر في المنتجات والسلع الخاصّة بالدول الحليفة جيوسياسياً للولايات المتحدة، ستدفع هذه الأطراف الدولية إلى التفكير في جدوى الاعتماد الحصري على الدولار، ليس فقط في تسعير صادرات الطاقة، بل أيضاً في أهليّته كعملة احتياط عالمية، بعدما سبقتها إلى ذلك الدول التي تخاصم واشنطن جيوسياسياً، مثل روسيا والصين. على أنّ ثمّة اختلافاً في الدافع وراء الخصومة التجارية المستجدّة مع الولايات المتحدة، بين الحلفاء والخصوم.
فبينما وقَفَ نظام العقوبات الذي طُبّق على نطاق واسع ضدّ روسيا، وبدرجة أقلّ ضدّ الصين، وراءَ التفكير في توسيع آليات منظومة «البريكس» التي يقفان خلفَها، لتشمل استبدال الدولار بالعملات المحلّية، في التسويات التجارية والبحث عن عملة احتياط عالمية بديلة، لن يحصل ذلك بالمقدار نفسه مع الحلفاء الذي يعانون حالياً من الرسوم الجمركية الأميركية. فنظام العقوبات المطبَّق ضدّ الروس، ليس عاملاً يمكن على أساسه قياس حجم «التمرّد» الذي سيقوده الأوروبيون مثلاً، في المستقبل، ضدّ إعادة النظر الترامبية، في قواعد التجارة الدولية.
سيكون الاتحاد الأوروبي، بهذا المعنى، مقيَّداً كثيراً في ردّه على الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة. وهو ما ظَهَر مباشرةً عبر تريّث المفوضية وتعليقها فرض الرسوم المضادّة التي كانت مقرّرة ابتداءً من مطلع آب الماضي، ريثما تتيح المفاوضات مع الولايات المتحدة، الوصول إلى حلٍّ مرضٍ لكلا الطرفين. الخشية هنا، ليست من تداعيات فرض الرسوم المضادّة بحدِّ ذاتها، بل من حدود ما يمكنها تقديمه في ظلّ عدم قدرة الأوروبيين، على المناورة ضمن إطار البدائل الاقتصادية المطروحة دولياً، كما تفعل بسهولة ومرونة كبيرتين كلٌّ من الصين وروسيا، ومعهما تكتّل «البريكس».
للكاتب السوري ورد كاسوحة