رفضَ المقابر الجماعية... وأنجزَ 1000 فحص «DNA»: كيف أدارَ حزب الله ملف الشهداء والمفقودين؟

الاشراق | متابعة.

فور دخول اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024 حيّز التنفيذ، وجد حزب الله نفسه أمام استحقاق إنساني صعب ودقيق؛ هو إدارة ملف الشهداء والمفقودين.

إذ كان عليه البحث عن جثث وأشلاء الشهداء، وانتشالها من تحت الردم، ثمّ إيداعها في مراكز خاصة، قبل إجراء أكثر من 1000 فحص حمض نووي لتبيان هوية أصحابها. أما إيجاد مكان لدفنهم، فهو تحدٍّ آخر، بدأ خلال حرب الـ 66 يوماً، حينما اضطر إلى دفن شهدائه «ودائع» (دفن مؤقت)، نتيجة تعذّر دفنهم في قراهم الجنوبية، ثمّ نقل هذه «الودائع» إلى مرقدها النهائي، مع توافر الظروف الملائمة.

كما واجه الحزب تحدي إيجاد مساحات في روضات الشهداء، لدفن الشهداء الجدد. يعود العدد المرتفع للمفقودين، وفقاً للمسؤول الإعلامي في الدفاع المدني التابع لـ«الهيئة الصحية الإسلامية» محمود كركي، إلى عوامل عدة، منها: «إفراط العدو في استخدام الأسلحة الفتاكة، لدرجة أنه إذا كان تدمير منزل يحتاج إلى 20 كلغ من المتفجرات، مثلاً، كان العدو يرمي 500 كلغ، ليُحدث أكبر أذى ودمار ممكنين. عدا عن أنواع الأسلحة التي استخدمها في هذه الحرب وأدت إلى تفتيت الجثث بشكل لم نشهد مثله في الحروب السابقة، عندما كنا نجد جثثاً كاملة تحت الأنقاض». ولم يكتفِ بذلك، إذ «تعمّد بعد وقف إطلاق النار، تفجير القرى الحدودية ليخفي أي أثر للجثامين، وهو ما حصل فعلاً».

وإلى جانب الأسلحة المستخدمة، أثّر عامل الوقت بقوة على هيئة الجثامين وأدى إلى تحلّلها، بعد 66 يوماً من القتال و60 يوماً إضافياً من احتلال القرى الجنوبية الأمامية، وعدم قدرة الفرق الإسعافية على الوصول إليها لانتشال الجثامين، وسط عوامل طبيعية ومناخية وانتشار الحيوانات البرية. ومع استمرار الاحتلال لعدة نقاط في الجنوب، يشير كركي إلى احتمال «أن نجد المزيد من الجثث المفقودة هناك»، من دون إغفال احتمال أن يكون المفقودون في الأسر، وهو احتمال «أيقظه» خروج أسرى فلسطينيين، في إطار اتفاق إنهاء الحرب على قطاع غزة، وكشف عدد منهم عن لقائهم في المعتقلات الإسرائيلية، بأسرى لبنانيين ممّن كانوا في عداد مفقودي الأثر.

يُضاف إلى ما سبق، خصوصية المعركة الأخيرة لجهة «تعذّر الاتصال والتواصل وانتقال عدد من المقاتلين إلى جهات تجهلها القيادة، إذ يُحتمل أن يكونوا قد أصيبوا واستشهدوا هناك وتحلّلت جثثهم مع مرور الوقت». ولم تسعف القلادة التي يوزعها الحزب على مقاوميه دائماً في الاستدلال على هوية الشهداء، لأنه «في بعض الأحيان، يسقط شهداء لا يضعون القلادة».

رفض للمقابر الجماعية
أمام كلّ هذه المعضلات، كان في إمكان حزب الله أن يختصر على نفسه الطريق ويدفن العدد المرتفع من الجثث والأشلاء المجهولة الهوية في مقابر جماعية، مثلما يحصل عادةً في الحروب الطويلة، ويحصل اليوم في قطاع غزة، فيوفر على نفسه الوقت والجهد والكلفة التي يتطلبها التمييز بين كل قطعة من الأشلاء والفصل بينها، وتوثيق كل عينة، للاستدلال على هويتها. لكن، الحزب قرر أن يخوض التحدي تكريماً لشهدائه، و«أنجز أكثر من 1000 فحص حمض نووي لمعرفة صاحب كل قطعة من الأشلاء التي يعثر عليها»، وأقفل عدداً كبيراً من ملفات المفقودين، وبقي 65 مفقوداً، وفق آخر بيان للمدير العام للأمن العام اللواء حسن شقير.

قبل الحرب، استحدثت «الهيئة الصحية الإسلامية» مركزاً خاصاً لحفظ الجثامين في بلدة كفرا الجنوبية، وجهّزت فرقاً مؤلفة من 20 فرداً، غير المسعفين، ووزعتهم على أكثر من منطقة. ودرّبت هذه الفرق على إدارة الجثث والتوثيق بشكل دقيق، يمنع وقوع أي لغط أو التباس من قبل «الصليب الأحمر الدولي».

أربعة شهداء في القبر الواحد في «روضة الشهيدين» ومقبرة جديدة في الكفاءات

وعندما وقعت الحرب، بدأت هذه الفرق تحفظ الجثث في توابيت مرقمة، وتدفن الجثامين كـ«ودائع» في أماكن مؤقتة، بعد حفظها كل البيانات ذات الصلة في بنك للمعلومات. كما «دفنّا جثثاً لا نعرف هويتها، وكنا نضع رقم التابوت مع توثيق دقيق لما يحمله، ريثما نتوصل إلى هوية صاحبه».

وكان هذا التحدي الثاني: كشف هوية الجثة مع غياب القلادة أو أي علامة تدل على صاحبها. أما الأشلاء المبعثرة، فجرى تجميعها «مثل البازل»، ثمّ إيداعها في مختبرات خاصة. وبالتوازي، كان العمل قائماً على أخذ عينات من آباء المفقودين أو إخوانهم وحفظها في المختبر لـ«مطابقتها مع كل عينة جديدة»، بمساعدة وزارة الصحة وجهات أخرى. ويتمّ ذلك بدايةً عبر فحص الحمض النووي السريع الذي تصدر نتيجته خلال ساعات.

وفي حال كانت النتائج غير حاسمة، يتمّ اللجوء إلى فحص الحمض النووي الدقيق الذي تصدر نتيجته خلاله أيام. وفي كثير من الأحيان، «تظهر نتائج الفحص أن العينة تعود لجثة شهيد سبق أن دفناه، فنأخذ، في بعض الحالات الخاصة، الإذن من الحاكم الشرعي لنفتح القبر، ونودعه ما وجدنا من بقايا».

لا مكان في «روضة الشهيدين»
«الملف صعب»، هذا ما يؤكده كركي. والتحديات لا تتوقف عند كشف هوية الجثث، بل أيضاً في إدارة ملف «الودائع»، لما يتطلبه من إجراءات شرعية معينة، وآلية لحفظ الجثامين بشكل يسمح بنقلها ودفنها في مكان آخر. ولذا، «كنا نضع الجثة في أكياس الموتى، ثم في صندوق يظلّ مقفلاً عند نقلها إلى مرقدها الأخير».

ولما كانت روضة الشهيدين في الضاحية الجنوبية قد امتلأت فعلاً بالشهداء ولم تعد تتسع لأعداد الشهداء الذين طلبوا في وصيتهم أن يُصار إلى دفنهم بين الشهداء في بيروت، عمل حزب الله في اتجاهين: الأول «رفع عدد الشهداء في القبر الواحد إلى أربعة كحدّ أقصى، تفصل بين كل منهم بلاطة، على أن يتحدد عدد الشهداء في القبر الواحد وفق حجم الجثث، فإذا كانت كاملة نضع جثتين فقط، أما عدا ذلك، فيمكن أن يتسع القبر لثلاث وأربع جثث». من جهة ثانية، استحدث الحزب، بعد الحرب، مقبرة جديدة للشهداء في الكفاءات «استقبلت حتى الآن أربعة شهداء، بينهم حسين الخليل (أبو علي)، مرافق الشهيد السيد حسن نصر الله».

متى يُوفّى المفقود؟
قبل أن يصل حزب الله إلى الجثمان أو أثر من الشهيد يدلُّ عليه، لا ينعى أياً من مقاوميه. وهذه السياسة اتبعها حتى مع السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين. لكن الخيار النهائي يبقى للأهل، فإما ينتظرون أي خبر عن المفقود، أو يعلنون وفاته. بعضهم يحجزون قبراً رمزياً ويكتبون عليه «مفقود الأثر»، بانتظار العثور على أثر «للشهيد» (المفقود)، ودفنه في القبر.

والبعض الآخر يتأرجح بين احتمال الوفاة وأمل أن يكون المفقود لا يزال حياً وواقعاً في الأسر، خاصة بعد الأخبار «الإيجابية» التي خرجت عن الأسرى الفلسطينيين المحررين.
وبالنسبة إلى الوضع القانوني، تجيب وزارة الداخلية والبلديات «الأخبار» بأن «الموضوع يعود للأهل، هم يقررون بالدرجة الأولى إذا كانوا يريدون إصدار وثيقة وفاة للمفقود، ثم يلجأون إلى المحاكم الشرعية والروحية بحسب كل طائفة، للحصول على حكم شرعي بالوفاة، ويكون التنفيذ لدينا في الوزارة كإجراء إداري».

للكاتبة زينب حمود.