بين اعتكاف المقاومة وعـجز دولة لبنان.. مصير مجهول!

الاشراق | متابعة.

أثناء خطاب النصر سنة 2006، وبعد أن فنّد الشهيد السيد حسن نصر الله الأسباب التي تدعو إلى عدم تسليم سلاح المقاومة أقسم قائلاً: «نحن ما قاتلنا من عام 1982... لتنتهي المقاومة وإسرائيل تحتل الأرض وتعتدي على العرض وتنهب المياه والخيرات... أبداً، لا والله». وخلال عشرين ونيف من السنين، استطاع السيد الشهيد الوفاء بهذا القسم. فما خلا مزارع شبعا وطلعات جوية فوق الإقليم اللبناني، لم يجرؤ أي رئيس حكومة في إسرائيل على اتخاذ قرار بالدخول إلى لبنان أو احتلال أي جزء من أراضيه.

هذا الواقع، تغيّر جذرياً بعد معركة «طوفان الأقصى». فقد خاضت المقاومة في لبنان، أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2024، مواجهات أقل ما يقال فيها إنها بطولية، عند الحدود اللبنانية الفلسطينية. لتنتهي تلك المواجهة بموجب ما يسمى باتفاق «وقف الأعمال العدائية» الذي أقره مجلس الوزراء في 27/11/2024، تنفيذاً للقرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن.

وقد نص البند الرقم 2 من الاتفاق على أن: «لن تنفّذ إسرائيل أي عمليات عسكرية هجومية ضد أهداف لبنانية، بما في ذلك الأهداف المدنية والعسكرية، أو أي أهداف أخرى تابعة للدولة، في أراضي لبنان، سواء براً أو جواً أو بحراً». فيما حفظ البند 4 لكل من الطرفين «... ممارسة حقهما الطبيعي في الدفاع عن النفس، بما يتماشى مع القانون الدولي». غير أن إسرائيل، ومنذ اليوم الأول لسريان الاتفاق، أمعنت في خرقه، مستكملة الاعتداءات الجوية والبرية، وتنفيذ عمليات اغتيال ضد لبنانيين. أكثر من ذلك، احتلت إسرائيل، خلافاً للبند الرقم 12 من الاتفاق، سبع نقاط داخل الخط الأزرق.

هذه الاعتداءات المستمرة منذ أحد عشر شهراً، مرشحة للتصاعد بوتيرة متسارعة وأكثر حدة، فما كان يفترض أن يُنهي الحرب بالنسبة إلى لبنان، تبين أنه استأنفها بأشكال مختلفة لا تقل خطورة عن سابقاتها. استمرار هذا الحال يعني عملياً زيادة غير محددة في أعداد الشهداء، وضربات عسكرية غير محصورة في أكثر من نطاق جغرافي داخل الأراضي اللبنانية، والأخطر من ذلك كله، عودة محتملة لاحتلال إسرائيلي أوسع لجنوب الليطاني.

هذا الاحتلال لن تعترضه أي صعوبة بسبب التزام الدولة اللبنانية بتفكيك المنشآت العسكرية لحزب الله في جنوب الليطاني (فقرة ب وت، من البند الرقم 7)، وانسحاب المقاومة عسكرياً من تلك المنطقة، تنفيذاً للبند الرقم 5 من الاتفاق عينه. بعبارات أخرى، طالما أن الدولة اللبنانية والمقاومة ملتزمتان بالاتفاق، فذلك سيمكّن إسرائيل لاحقاً من التوغل في أي منطقة أو محور لبناني من دون أي ممانعة أو مقاومة؛ فلا الجيش اللبناني قادر على المواجهة العسكرية، ولا المقاومة موجودة عملياً في جنوب الليطاني. في النتيجة ستكون إسرائيل قادرة على احتلال منطقة جنوب الليطاني على قاعدة «ادخلوها بسلام آمنين».

ما هو مطلوب من الدولة، مطلوب أيضاً من المقاومة، فطالما لا تزال متمسكة بسلاحها، فلا يمكن للأخيرة في ظل الوضع الأمني الراهن الاستمرار بـ «الاعتكاف»

استناداً إلى ما تقدم، فإن عامل الوقت لا يخدم الدولة اللبنانية، ولا المقاومة، خاصة أن كلاً منهما في هذه المرحلة غير منسجم مع الآخر. فمن جهة، تدعو المقاومة الدولة للقيام بواجب الدفاع عن أراضيها، مع علمها بعجزها عن ذلك. وترفض، من جهة ثانية، تسليم ما تبقى لها من سلاح، وتجمّد استخدامه، وهو ما يفسر دولياً على أنه فشل لبناني، وقبول ضمني بالاعتداءات الإسرائيلية، لأنه يشكل تنازلاً عن البند الرقم 4 من الاتفاق، الذي يعطي لبنان الحق بالدفاع عن النفس، خاصة في ظل «الضمانات» الأميركية غير المكتوبة التي تجيز لإسرائيل القيام بضربات «وقائية» ضد أهداف محتملة لحزب الله.

بالنتيجة، كل ذلك سوف يؤدي إلى ضياع جميع المكتسبات التي حققتها المقاومة الوطنية منذ سبعينيات القرن الماضي، وإهدار كل التضحيات التي بُذلت في هذا الإطار، ولا سيّما بعد الاحتلال الإسرائيلي سنة 1982. وإذا كانت الدولة اللبنانية عاجزة عن الدفاع عن نفسها عسكرياً (علماً أن هذا الحق مكرّس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة) إلا إنه يمكن لها إعلان تعليق مؤقت لاتفاق وقف الأعمال العدائية، كونه أصبح دون موضوع، وهذا الحق مكرّس في المبادئ الأساسية التي ترعى الاتفاقيات الدولية.

وعليه، فإن الدولة اللبنانية مدعوة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى حسم خيارها السياسي، ومصارحة اللبنانيين بذلك دون مواربة. عليها أن تعترف أولاً بعجزها أمام الاحتلال الإسرائيلي، وأنها تسعى إلى السلام مع إسرائيل، وهي قبلت بالتفاوض غير المباشر مع العدو، وما زيارة مدير المخابرات المصرية إلى لبنان إلا إيذان بذلك. فلا يتصور أن يقوم وفد أمني مصري بهذا المستوى الرفيع بزيارة للبنان، فقط بهدف نقل رسالة سرية أو تحذير.

وطالما أن التفاوض قد بدأ، فإن خيار «التسوية» الذي سلكته الدولة اللبنانية يجب أن يحفظ الحد الأدنى من السيادة الوطنية، لا أن يقدم التنازلات واحدة تلو الأخرى، خاصة أنها سبق وتنازلت عن حقها بالدفاع عن النفس. أضف إلى ذلك، فإن تجربة السلطة الفلسطينية مع إسرائيل بعد اتفاق أوسلو، يجب أن تكون حاضرة أمام الدولة اللبنانية لاستخلاص الدروس وتجنب الثغرات.
وما هو مطلوب من الدولة، مطلوب أيضاً من المقاومة، فطالما لا تزال متمسكة بسلاحها، فلا يمكن للأخيرة في ظل الوضع الأمني الراهن الاستمرار بـ «الاعتكاف» من دون مصارحة اللبنانيين برؤيتها المستقبلية، أو التلويح بأوراق القوة لديها.

وأكثر من ذلك، ينبغي أن يدفع الخطر الإسرائيلي اللبنانيين المعارضين لفكرة السلام نحو العمل على إعادة إحياء جبهة مقاومة وطنية، تتجاوز الطوائف، لأن الانقسام الحاد بين اللبنانيين حول حيازة «حزب الله» للسلاح، أصبح بحد ذاته من أهم عوامل القوة لصالح إسرائيل، وذريعة مجانية تدعوها للحرب مجدداً.

وما بين عجز الدولة واعتكاف المقاومة، هل سيُكرر الانقسام اللبناني مشهد سنة 1982، ومعه بداية جديدة للمقاومة، أم سيرضخ لبنان لتحولات إقليمية، ويعلن استسلاماً غير مشروط لصالح الهيمنة الأميركية في المنطقة؟

للكاتب أحمد بيضون.