رأسمالية الإبادة..من «القدر المتجلّي» إلى غزة!
الاشراق | متابعة.
إنّ الفهم الراهن لخلفيات الموقف والدور الأميركي المصرّ على الاستمرار بدعم حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، رغم الفضيحة والانكشاف داخل أميركا وعلى المستوى العالمي، لا يمكن أن يكتمل دون العودة إلى الجذور، وتفكيك الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة نفسها، فكما نقول دائماً: ثمّة تشابه يصل حدّ التطابق في طبيعة كلّ من النظامَين الاستعماريَّين الأميركي والصهيوني، من المفيد دائماً استحضارها لتكون منهجية البحث والفهم سليمة.
«إن قدرنا المتجلّي هو أن ننتشر في القارة التي خصّصتها لنا العناية الإلهية من أجل التنمية الحرة لملاييننا المتزايدة سنويًا». وردت هذه العبارة في مقال الكاتب الأميركي (الديبلوماسي لاحقاً) جون أوسوليفان، بعنوان «الضم» (Annexation) نشره في عدد تموز/آب 1845 من مجلة «United States Magazine and Democratic Review». منذ ذلك التاريخ، بدأ مصطلح «القدر المتجلّي» (Manifest Destiny) بالانتشار، ولتصاغ منه مفاهيم ورؤى تقوم على خرافة اختيار الخالق للمستوطنين الأوروبيين البيض البروتستانت للسيطرة على الأرض (التي هي بلا شعب)، ولإعمارها و«ترسيخ الكرامة الأخلاقية وخلاص الإنسان على الأرض» - بعبارات أوسوليفان.
يعتبر المؤرخون أنّ أميركا مرّت بمراحل متعدّدة من الاستيطان الأوروبي، الذي بدأ منذ ما بعد وصول كريستوفر كولومبوس إلى شواطئها في العقد الأخير من القرن الخامس عشر. سيطر هؤلاء البيض البروتستانت بالتدريج على الساحل الشرقي ومناطق الجنوب وبعض مناطق الوسط بالتدريج على مدى أربعة قرون، بما يمثّل أقل من نصف مساحة الولايات المتحدة الأميركية التي نعرفها اليوم. لكن ابتداءً من عام 1803، عندما اشترت الحكومة الأميركية منطقة لويزيانا (التي شملت 15 ولاية) من فرنسا بـ 15 مليون دولار أميركي، تضاعفت مساحة الدولة الأميركية، وأصبحت بحجم ثلثَي المساحة الحالية. أمام هذا الواقع المستجد، فتحت شهية المستوطنين الأوروبيين الذين كانوا يتطلّعون إلى تجاوز نهر المسيسيبي غرباً، للوصول إلى الأرض التي «وهبها لهم الله».
ولِحظّ المكسيكيين العاثر، قبل أسبوع من توقيع معاهدة «غوادالوبي هيدالغو» التي أنهت حرب العامين (1846-1848) بين المكسيكيين والأميركيين، والتي نصّت على اعتراف المكسيك بـ «كاليفورنيا العليا» (Alta California) كأرض أميركية، اكتشف «جيمس مارشال» في 24 كانون الثاني 1848 الذهب على ضفاف نهر «أميركان ريفر» في منطقة «كولوما» في الجزء الشمالي الشرقي من كاليفورنيا.
أدّى اكتشاف الذهب إلى إطلاق موجة هجرة جماعية نحو الغرب، في ما عُرِف بـ«حمّى الذهب» (Gold Rush)، إذ تدفّق مئات الآلاف من المستوطنين إلى كاليفورنيا، دون أي اعتبار لحقوق السكّان الأصليين على الأرض أو مواردهم. استمرّت حقبة «حمّى الذهب» حوالى 7 سنوات، بين عامَي 1848 و1855، تخلّلها تدفّق بشري غير مسبوق إلى كاليفورنيا، مدفوعاً فقط بفرصة الثراء السريع، ولتؤدّي عمليات التنقيب العشوائية إلى تدمير الأنهار والوديان التي كانت تعتمد عليها قبائل السكان الأصليين مثل «يوكي» و«مايدو» في معيشتها.
جرى اقتطاع أجزاء من منطقة كاليفورنيا الواسعة لتنبثق منها ولايات أريزونا ويوتا وكولورادو ونيفادا، وبالمتبقي إلى الغرب أعلن تأسيس ولاية كاليفورنيا المعروفة اليوم. غداة تشكيل سلطات الحكم في كاليفورنيا عام 1850، وبالتزامن مع «حمّى الذهب»، كان عدد سكان الولاية من البيض قد ارتفع من 1000 عام 1848 إلى 100,000 مستوطن، وبحلول عام 1854 وصل عدد المستوطنين الآتين من الساحل الشرقي والجنوب الأميركيَّين وهاواي والصين وأراضي الإمبراطورية العثمانية وأميركا اللاتينية إلى حوالى 300,000 (غالبيتهم كانت من الأميركيين البيض).
ساعدت هذه المؤسسات – ولا تزال - حكومة العدو على جمع ما يقارب 19.4 مليار دولار بين تشرين الأول 2023 وكانون الثاني 2025، أبرزها مصرف «غولدمان ساكس» الذي انفرد بضمان ما يزيد على سبعة مليارات دولار من هذه السندات
لضمان الهيمنة على الأراضي والموارد في كاليفورنيا، سارع المستوطنون البيض إلى تشكيل ميليشيات مسلّحة، وبدأوا بشنّ هجمات على قرى السكّان الأصليين، بهدف طردهم من أراضيهم الغنيّة بالذهب. أدّت هذه الهجمات إلى مذابح ممنهجة، حيث كانت الغاية هي إبادة السكّان الأصليين لإخلاء الطريق أمام المصالح الرأسمالية للمستوطنين. وكانت حكومة الولاية المشكَّلة حديثاً تتبنّى وتدعم جرائم الإبادة بحق السكّان الأصليين، دون أي حرج من وصفها بـ«الإبادة».
بيتر بيرنيت، أول حاكم لكاليفورنيا، في خطاب «حالة الولاية» في 6 كانون الثاني 1851، قال بالحرف: «من المتوقَّع أن تستمرّ حرب الإبادة بين الأجناس حتى ينقرض الجنس الهندي». تُظهر السجلّات انخفاضاً مأساوياً في عدد السكّان الأصليين في كاليفورنيا من حوالى 150,000 عام 1848 إلى حوالى 30,000 فقط بحلول عام 1870.
لضمان استمرار تدفّق رؤوس الأموال والمستوطنين، كان لا بد من بناء سكّة حديد تربط الشرق بالغرب، كون غالبية هجرات مستوطني «حمّى الذهب» كانت قد حصلت عبر البحر. في عام 1862، أُطلق مشروع السكك الحديد القارّية بدعم من الحكومة الفيدرالية ورأسماليي «وول ستريت».
أصدرت الحكومة الفيدرالية سندات مضمونة ومنحاً هائلة من الأراضي لشركات مثل «يونيون باسيفيك» و«سنترال باسيفيك»، وهي أراضٍ كانت في معظمها مملوكة للسكّان الأصليين. أسهمت هذه الشراكة بين الدولة ورجال الأعمال في تدمير حياة القبائل بشكل أعمق، فقد سهّلت السكك الحديد انتقال المستوطنين الجدد وتجارة البضائع، ما أدّى إلى المزيد من الاستيلاء على الأراضي وموارد الصيد، خاصةً صيد الجواميس، الذي كان أساسياً لبقاء عدد من القبائل على قيد الحياة. لقد مثّلت السكك الحديد شرياناً حيوياً لنظام استيطاني أدّى في النهاية إلى إبادة ثقافية وجسدية للسكّان الأصليين.
كانت الشركات المنفّذة لمشروع الربط السككي، «يونيون باسيفيك» في الشرق و«سنترال باسيفيك» في الغرب، تحت سيطرة مجموعة من حيتان «وول ستريت». في حالة «سنترال باسيفيك»، عُرِف المموّلون الأربعة الرئيسيون باسم «العمالقة الأربعة» (Big Four)، وهم ليلاند ستانفورد، وكوليس بي. هانتينغتون، وتشارلز كروكر، ومارك هوبكنز. بدأوا كمستثمرين في تجارة التجزئة والمضاربات خلال «حمّى الذهب»، ثم تمكّنوا من تحويل الدعم الحكومي الهائل إلى ثروات شخصية. في نظرهم، لم يكن وجود السكّان الأصليين على طول مسار السكك الحديد سوى «مخاطرة» يجب إزالتها لضمان استمرارية الربح.
كانت شركاتهم توظّف صيادين محترفين لقتل قطعان الجاموس الضخمة، ليس فقط لتوفير الطعام لعمّال السكك الحديد، بل أيضاً لتدمير المصدر الرئيسي لغذاء قبائل السكّان الأصليين، لخلق أسباب تهجيرها. كما كانوا يستفيدون من المساعدات العسكرية الحكومية لقمع أي مقاومة من قبل السكّان الأصليين، حيث كان الجيش الأميركي يتدخّل بشكل متكرّر لحماية عمّال السكك الحديد، ما أدّى إلى المزيد من الإرهاب والمذابح بحقّ السكّان الأصليين. بالنسبة إلى هؤلاء المموّلين، كان التوسُّع غرباً عملية تجارية خالصة، وكانت حياة السكّان الأصليين مجرّد عقبة في طريق تحقيق الأرباح، وهو ما تجسّد في ممارساتهم الاستيطانية والمالية.
منذ بدء حرب الإبادة الصهيونية على غزة في 7 تشرين الأول 2023، لجأت حكومة بنيامين نتنياهو إلى إصدار سندات دين سيادية بوتيرة متسارعة لتغطية نفقات الحرب. لكن هذه السندات ما كان لها أن تصل إلى الأسواق العالمية لولا قيام سبعة بنوك استثمارية كبرى – في غالبيتها أميركية - بعملية الضمان (underwriting)، أي تسويقها وجذب المستثمرين إليها. هذه البنوك والمؤسسات المالية هي: «غولدمان ساكس»، «بنك أوف أميركا»، «دويتشه بنك»، «بي إن بي باريبا»، «سيتي غروب»، «باركليز»، و«جي بي مورغان تشيس».
ساعدت هذه المؤسسات – ولا تزال - حكومة العدو على جمع ما يقارب 19.4 مليار دولار بين تشرين الأول 2023 وكانون الثاني 2025، أبرزها مصرف «غولدمان ساكس» الذي انفرد بضمان ما يزيد على سبعة مليارات دولار من هذه السندات. يشتري مديرو الأصول هذه السندات لصناديقهم الخاصّة، ولعملائهم أيضاً، بما في ذلك صناديق التقاعد وشركات التأمين، وغيرها. بمعنى آخر، من المحتمَل أن تكون مناصراً للقضية الفلسطينية وتعيش في أميركا وتحمل جنسيتها، وأموال تقاعدك من عملكَ موظَّفة في تمويل حرب الإبادة الصهيونية على غزة، التي تتظاهر وتضغط مطالباً بوقف الحرب عليها! يوصّف هذا الحالة القاضي الأميركي الصهيوني الشهير لويس برانديس في كتابه «أموال الآخرين» (قبل أن يصبح قاضياً) بقوله: «إنهم يسيطرون على الشعب عبر أموال الشعب نفسه».
إنّ مموّلي سندات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة اليوم ليسوا سوى امتدادٍ تاريخي لأولئك الذين موّلوا إبادة السكّان الأصليين في كاليفورنيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بالأمس كانت بنوك «وول ستريت» وشركات سكك الحديد تجني الأرباح على حساب اقتلاع وإبادة عشرات الآلاف من السكّان الأصليين الذين سمّوهم «الهنود الحمر»، واليوم تكرّر المصارف والمؤسسات المالية الأميركية المشهد ذاته بتمويلها حرب إبادة الفلسطينيين في غزة. لا شيء تغيّر في جوهر «رأسمالية الإبادة»: رأس المال يظلّ يقتات على قهر الشعوب، ويحوّل حروب الإبادة إلى فرص استثمارية.
تقرير تابعته الاشراق للكاتب علي حسن مراد.