القادم عند الفجر... ناصر ومنتصر

الاشراق | متابعة.

«يا سيدي في مدن الملح التي يسكنها الطاعون والغبار

في مدن الموت التي تخاف أن تزورها الأمطار

لم يبقَ إلا أنت تزرع في حياتنا النخيل والأعناب والأقمار

لم يبقَ إلا أنت. إلا أنت. إلا أنت فافتح لنا بوابة النهار» (نزار قباني مخاطباً السيد حسن نصر الله خلال حرب نيسان 1996)


كالكثير من أبناء جيلي كان للسيد حسن نصر الله حضور وغياب في مخيلتي منذ الطفولة. ارتباطي وعدد من أبناء جيلي بالسيد مر بأطوار مختلفة من القطع والوصل شكلتها عوامل متداخلة من طبيعة التكوين، ظروف البيئة، والتحولات الجسام التي مر بها عالمنا خلال ثلاثة عقود ونيف. ما زلت أذكر طيفاً من سنوات طفولتي الأولى في لحظة تحرير جنوب لبنان وخطاب السيد في بنت جبيل أجلس أنا وأختي نشاهد المسيرات الشعبية لأهل الجنوب في دربهم لاسترداد قراهم المحتلة، فنبكي من الفرح ونردد في براءة الطفولة إن شاء الله فلسطين. ثم تأتي الانتفاضة الثانية فنرى أنفسنا في محمد الدرة ونأمل بيوم التحرير واسترداد الحقوق. مرت عليّ من بعدها سنوات طوال بعدت فيها عن درب السيد تأثراً بخطابات سادت في ساحتنا، تلاعبت بالعقول، وبعدت الهوة بيننا وبين نصر الله.

لكن طيف السيد ما زال يحضر من بعيد ليعيد الروح لجيل ما عرفه حق قدره وضلّ الطريق. كنا نتذكر في الستينيات عشرات الملايين تملأ شوارع المدن العرب لما كان «راجل واحد» اسمه جمال عبد الناصر يخطب. وكما مع السيد، مرت علاقتي وبعض أبناء جيلي بتحولات متشابهة من شخص الرئيس جمال عبد الناصر ومشروع التحرر العربي للانعتاق من الاستعمار ببنائه القديم والمحدث.

محدودية المعرفة وتضليل الإعلام الموجه صرف نظرنا عن التناقض الرئيسي وشغلنا بتناقضات ثانوية تصرفنا عن جوهر الصراع.

في شخص السيد وناصر تكثيف لمسيرة أمم المستضعفين في مواجهة قوى الاستكبار والهيمنة، واستمرار صراع ممتد منذ 500 سنة صنعته حداثة كولونيالية خلقت على عين الآلة ورأس المال، فهندست الإبادة واتخذت التهجير عقيدة للمستوطنين في مواجهة المستضعفين أهل الأرض.

أبصر السيد النور في عالم جديد يتخلق بالثورة منعتقاً من ربقة الكولونيالية والاستعباد بنته تضحيات ودماء أجيال آمنت بحقها في الحياة من الجواد الجامح في أرض اللاكوتا، إلى عز الدين القسام في أحراش يعبد، عبد الكريم الخطابي في جبال الريف، عمر المختار في صحراء ليبيا، محمد أحمد المهدي في جبل غدير، أحمد عرابي في التل الكبير، فيدل كاسترو وتشي غيفارا في جبال سييرا مايسترا، ومن قبلهم وبعدهم سار على الدرب وثار كثيراً.

أبصر السيد النور، فسار على درب علماء جبل عامل وعلماء النجف وقم. تشكّل وعيه برفقة أستاذه السيد عباس الموسوي، وحضرة موسى الصدر، باقر الصدر، وروح الله الموسوي. العالم كل العالم كان وما يزال ساحة صراع وقوى الهيمنة والاستكبار تتمدد في كل الساحات:

مات المسيح النبي
ويهوذا بالألوفات
مات الصديق الوفي
للخضرة والغابات
مات بس فات للأمل
فوق الطريق علامات
لو سار عليها العمل
طول الطريق بثبات
تهدى الطريق سكته
وتقرب المسافات
(أحمد فؤاد نجم في رثاء هوشي منه)

كناصر في حرب الاستنزاف، خرج السيد حسن وصحبه في وجه أنظمة الاستكبار المحتلة لأرض لبنان، فصاغ وصحبه من أبناء أمة «حزب الله» رسالتهم لأمة المستضعفين في الأرض موضحين فيها من العدو، مسطرين لقصتهم في مواجهة الاستكبار، وداعين لجبهة عالمية للمستضعفين. فالتناقض الرئيسي واحد والعدو واحد. فويليام فرانسيس بكلي الذي كان يوماً يخطط في فيتنام مع قاتل تشي غيفارا فيلكس رودريغيز لاغتيال الجنرال فون نغوين جياب رفيق درب هوشي منه، قد جاء إلى أرض لبنان لمواجهة رجال أمة «حزب الله». لكن قدر الله ورجاله كانوا له بالمرصاد.

في شخص السيد وناصر تكثيف لمسيرة أمم المستضعفين في مواجهة قوى الاستكبار والهيمنة

مسيرة استمرت لأربعين سنة وبعد، راكم فيها رفاق السيد القدرة، فتحقق حلم ناصر ببناء قدرات صاروخية محلية كان هو أول من حاول توطينها في قطر عالمثالثي في خمسينيات القرن المنصرم. منذ استشهاد السيد عباس الموسوي، قاد السيد حسن مسيرة طليعة أمة المستضعفين إلى التحرير من غير قيد أو شرط في العام الألفين وما لحقه من انتصار الصمود في حرب تموز 2006.

في لحظة خروجه من السجن في فرنسا نهاية الثمانينيات، يحكي أنيس نقاش عن لحظة لقائه بالقائد الجهادي عماد مغنية.بعد اللقاء الحار بين الرفاق، أخبر الحاج عماد أنيس أنه سيعرّفه إلى عالم شاب سيكون له مستقبل عظيم في درب المقاومة، فكان لقاء أنيس الأول بالسيد حسن. بعد استشهاد السيد عباس، تولى السيد حسن قيادة الحزب منتخباً من رفاقه فكانت المواجهة خياره فارضاً معادلة الردع وحامياً لبنان في تفاهم عام 1993 واستمر في البناء على مشاركة «حزب الله» في دعم مقاومة المستضعفين في البوسنة.

جاءت إسرائيل بعناقيد غضبها، فكان السيد ورجاله لها بالمرصاد حتى تحقق تحرير الأرض. خلال كامل المسيرة، كانت فلسطين حاضرة كأولوية في قلب نصر الله، ولسانه، وفعله، فكان التشبيك مستمراً مع قوى المقاومة الفلسطينية منذ الإعلان عن انطلاق «حزب الله» في منتصف الثمانينيات ثم جاءت مراكمة الحزب للقدرة، فأصبح الحزب طليعة في تدريب، وتمويل، وتسليح، وإسناد الأرض المحتلة.

صِدق نصر الله ورجاله خلق منهم نموذجاً للفعل الثوري المقاوم. أصوات أكاديمية غربية رصينة كنعوم تشومسكي رأت فيه تحقق القيادة الثورية لحركة التحرر الوطني الذي رأته يوماً في هوشي منه وثورة فيتنام. يزور تشومسكي السيد ويلتقيه وإدوار سعيد أيضاً كصوت مؤسس في الأكاديمية ما بعد الكولونيالية. يبصر نموذج التحرر الوطني في فكر السيد، فتكون زيارته له نقطة ينطلق بعدها سعيد إلى فعل مقاوم رمزي برجم الشيطان الأصغر على السياج الحدودي من أرض الجنوب المحرر.

تستمر مسيرة الفعل المقاوم ويستمر صوت نصر الله كاشفاً ومرشداً لعشرين سنة جساماً حتى تأتي لحظة العروج والارتقاء. لحظة تحقق الحقيقة معمدةً بالدماء، فيفنى الجسد لكن يبقى الإنسان ناصراً للمستضعفين ومنتصراً في شهادته وفي بعض الفناء بقاء:

دع لي بعض الزهرات أعلقهن على صدرك
دع لي بعض اللحظات
يا من يتضاءل مجد الموت لدى عتبات عُلاه
يا من يتجسّد - وهْو شَموخ - في قلب المأساة
يا عطر الأيام الحُبلى بعذابات التكوين
يا من هو كل المظلومين وكل المهمومين
إني أصغي لصدى خطواتك فى أرض فلسطين
أو أنت القادم عند الفجر إلى أرض فلسطين
عليك سلام الله
عليك سلام الله
القادم عند فجر (محمد مفتاح الفيتوري في رثاء جمال عبد الناصر)

*
محمد فرح - كاتب سوداني