نداء السماء
الاشراق | متابعة.
يبدأ يومي ـ بعد عناءٍ طويل وجهدٍ متواصل ـ عند التاسعة والنصف مساءً. في تلك اللحظة، أكون قد فرغت من عشاءٍ بسيط، ثم أضع الوسادة على الأرض قرب مكتبتي، وأُهيّئ لنفسي مساحةً صغيرة من السكينة. بجانبي كوب الشاي، والفِيب الذي أصبح جزءاً من عادتي، والكتاب الذي ينتظرني في يدي. أفتحه على الصفحة التي انتهيت عندها بالأمس، وأسأل نفسي: أين وصلت؟ وماذا بقي لي؟ لكن قبل أن أغوص في النص، أمد يدي إلى جهاز الموسيقى وأضغط زر التشغيل. عادةً ما أبدأ بكارن هماينوفر، فهي أول ما يُهيّئ روحي للدخول في عالمٍ آخر. هذه الطقوس الصغيرة صارت قانون يومي، أشبه بعبورٍ من حياةٍ صاخبة إلى حياةٍ داخلية أكثر صفاء.
لكن في تلك الليلة، لم تكن الموسيقى مجرد خلفية هادئة. كان ثمة حدث أكبر يقتحم عالمي الخاص، جنازة الشهيد حسن نصر الله، التي مرّت بين الجمع المهيب. صورة حية تنقلها الشاشات، تتداخل مع موسيقى تصدح في غرفتي، كأن الأرواح تتلاقى على غير موعد، كأن العزاء لم يعد مقصوراً على الحاضرين، بل امتد ليشمل كل من كان قلبه مشدوداً إلى تلك اللحظة.
شعرت أنني أمام رمزٍ يتجاوز الجغرافيا والحدود. رجلٌ حمل في نظر كثيرين لقب «العدو الأول لإسرائيل»، وهذا وحده كافٍ ليجعل صورته تتجذر في وجداني. تشابهي معه لم يأتِ من تربية أو ثقافة متطابقة، بل من فطرة عميقة: من كراهية مشتركة لعدو واحد. اختلافاتي معه لا أصل لها، إنها مجرد أقاويل بعيدة، أريد بها تشويه صورة عملاق وقف صلباً في وجه مشروعٍ كامل. بالنسبة إليّ، ما دام هو العدو الأول لإسرائيل، فذلك يكفي ليغلق أبواب النقاش.
كانت الموسيقى تسير بإيقاعٍ رهيب، تُعانق صورة التشييع، وتتماهى مع الأرواح التي تنظر وتبكي بوجع مهيب. بدا لي أنّ هناك سراً أكبر في هذا التزامن، كأن الكون أراد أن يفتح لي نافذةً لأفهم شيئاً كنت أجهله عن نفسي.
أي عبارة يمكن أن تُعبّر عني بعد هذا الوداع؟ كيف يمكن للإنسان أن يتخيّل نفسه بلا الأب الذي لا يُدرك قيمته إلا بعد رحيله؟ لم يكن حسن نصر الله أبي، ولكنه في تلك اللحظة أخذ شكلاً أبوياً جماعياً، الأب الذي يُجسّد معنى الحماية والمعنى، والذي حين يغيب يترك أبناءه في مواجهة أسئلة صعبة.
أنا لست من هؤلاء الشجعان الذين يتقدمون إلى الموت بلا خوف. أعترف أنني أفتقر إلى تلك الجرأة النادرة، وذلك الصدق المطلق الذي يدفع المرء ليهب حياته قضيةً يؤمن بها. لكن خبر استشهاده صدم روحي، وولّد داخلي تصادماً مع كل ما ظننته مستقرّاً. جعلني أكتشف أنّ هناك أشياء كثيرة لم أكن حتى أتصوّرها، أشياء لا تُدرك إلا حين ترى كيف يتعامل الناس مع موتٍ بحجم موت رجلٍ استثنائي.
الموسيقى التي كانت بالنسبة إليّ مجرد تعبير مجازي، غدت فجأة تفسيراً حقيقياً. كنت أقول دائماً إنها من أجوبة الوجود، ولكنني أدركت هذه المرة أن الموسيقى ليست عزاءً فقط. تساءلت: كيف ينبغي لي أن أكون بعد اليوم؟ هل أكتفي بدور المتفرج، أكتفي بالجلوس إلى مكتبتي مع كتابٍ وكوب شاي وموسيقى؟ أم أن هذا النداء من السماء يطالبني بأكثر من ذلك؟ ربما لا أستطيع أن أكون بطلاً، ولكن يمكنني أن أكون شاهداً.
الشاهد الذي لا يُنكر الحقيقة، ولا يزيّف إحساسه، ولا يتخلى عن ذاكرته. هكذا شعرت أن حياتي الصغيرة ـ بكل طقوسها اليومية ـ صارت جزءاً من مشهدٍ أكبر. لم تعد الموسيقى مجرد تسلية، ولا الكتاب مجرد رفيق، ولا الجلوس قرب المكتبة مجرد عادة. كل شيء اكتسب بعداً جديداً، كأن استشهاد هذا الرجل أضاء داخلي مساحةً لم أرها من قبل.
*صفاء سالم إسكندر - كاتب عراقي