رباعية السيد

الاشراق | متابعة.

مثل نهرٍ يتشكّل من روافد متعددة، تأتي شخصية السيد حسن نصر الله حاملةً في أعماقها بصمات أربع شخصيات كبرى، شكّلت أركان فكره ومنظوره. ليست مجرد سيرة قائد أو أمين عام، بل هي رحلةٌ حيث تلتقي النجف ببيروت، والقدس بطهران.
من السيد موسى الصدر إلى الإمام الخامنئي، مروراً بالشهيد الصدر والإمام الخميني، تنسج هذه الرباعية خريطةً وجوديةً لأرضية صلبة، انطلقت منها قراراتٌ غيّرت وجه لبنان والمنطقة.

حياة السيد حسن نصر الله لا تكاد تخلو في سنة من سنيّها من تجربة جديدة وفرصة تسهم في تشكيل شخصيته وبلورتها، سواء على مستوى التحولات التي كانت تفرض عليه اتخاذ قرارات ما، أو تلك التي تفرضه ملهماً لكثير من المحبين في تبيين الحقائق المعاشة واليومية التي تتعقد أمام المراقب العادي.
هذه الرباعية من الشخصيات كانت محل نظر بعض الدراسات التي حللت المفاصل الأساسية لشخصية السيد نصر الله وإن تركز نظرها في الغالب على جعل كل شخصية أحد علامات المفاصل التاريخية في سيرته الخاصة.
لا نتكلم هنا عن السيد في تجربته التنظيمية أو القيادية لمسيرة المقاومة، بل نتكلم عن السيد حسن في بُعد تشكّله الشخصي، نحاول أن نتلمس الخيوط المتعددة التي حاكت فكره وشخصيته العلمية والمعنوية والفكرية.

ولكن ما هو الأثر الخاص لكل شخصية من الشخصيات في خصوص مقاربته للقضايا المهمة ومركز الثقل الذي حمله السيد منها في تشكيله لمقارات حل الأمور واتخاذ المواقف منها؟

السيد موسى الصدر، يُشكّل اللبنة الأولى في شخصية نصرالله، التي جعلته يختار التوجه نحو علماء الدين والدراسة الدينية في الحوزة العلمية الشيعية، توجّه إليه مُحمّلاً بشخصية رجل الدين الخطيب الذي يملك الكلمة كأقوى أداة للتغيير، الذي يحمل همّ المواطنة التي لم تكن يوماً منفصلة عن القضية المركزية للأمة، أي القضية الفلسطينية.

في هذا السياق، يقول السيد حسن «الإمام الصدر كرّس في ثقافتنا قضية القدس والمسجد الأقصى، إمام العيش الواحد والعيش المشترك، إمام الترفع عن الحساسيات والحسابات الشخصية والطائفية والمذهبية والحزبية، إمام الصدق والوفاء والإخلاص للوطن وللمقدسات وللأم». جواب سؤال المواطنة المندمج بالقضية الفلسطينية، وعدم إمكان الانفكاك بينهما، إرث إبداعي من الإمام موسى الصدر، وهو توسع للهمّ الوطني ليشمل القضية المركزية الفلسطينية، وعدم جعل الحدود الجغرافية حدوداً لكل أبعاد الفاعلية الإنسانية المقاومة.

لم يكن سؤال المواطنة قوياً في زمن السيد موسى الصدر، بقدر ما كان سؤال المقاومة الفلسطينية وعدم تعارضها مع اللبننة فقط، أما صياغة النموذج الوطني اللبناني بعناصره المختلفة فكان بحثه ما يزال غير مختمر في أوائل الأمر كما صار لاحقاً مع حضور نظرية ولاية الفقيه كإطار فكري راسخ.

حمل السيد نصرالله هذا النموذج، وانطلق منه إلى النجف الأشرف، إلى السّيد محمد باقر الصدر. الشخصية اللامعة في عمقها بالإضافة إلى همّ المعاصرة والمزاوجة بين حاجات العصر والعلوم التي يتلقاها طالب العلوم الدينية في الحوزة العلمية الشيعية، إن أمكن أن نختصر الإرث الذي أخذه نصر الله من السيد محمد باقر الصدر، فإنه الإيمان بالبُعد الحركي للعلم والمعرفة في ميادين الحاجة والقضايا المعاشة.

هذه الرباعية من الشخصيات كانت محلّ نظر بعض الدراسات التي حللت المفاصل الأساسية لشخصيته


ويقول السيد حسن في هذا الصدد «السيد الصدر قدم إنجازات عظيمة خاصة في الدفاع عن الإسلام وما يزال دفاعه مُستمراً في فعاليته وقوته وفي إثبات قدرة الإسلام على قيادة الحياة».

لكن المنعطف الأقوى في تشكل شخصية السيد كما عرفناها، هو الإمام الخميني، صاحب السلطة القوية على القلوب التي أحبته وانجذبت إليه، الركن الأساسي الذي قدمه للسيد نصرالله هو «النظرية القابلة للتفريع»، والتي قدّمت الإسلام والتشيع كصيغة غير انفعالية _لا شرقية ولا غربية_ في التصدي لهجمات الآخرين، بل من منطلق الاعتداد بالنفس وامتلاك صيغة الحراك السياسي والثقافي وغيره.

في هذه النظرية التي شكّلت الأرض الصلبة لشخصية السيد حسن، ولشخصية حزب الله عموماً، وكانت هذه النظرية بعد صراع معرفي في دوائر الفقه والعلوم الدينية لإثبات ذاتها، لا بُدّ من أن تنتقل إلى عملية تثمير ثمراتها على مستوى ميادين الحياة المختلفة، الثقافية والفنية والاجتماعية وغيرها.

فكان على السيد نصر الله بعد الإيمان بهذه البنية التحتية لولاية الفقيه أن يفرّع أصولها في مجالات مختلفة.
يقول السيد نصر الله في هذا المجال «من أهم الأفكار والمفاهيم المركزية في تجديد الإمام الخميني وإحيائه للإسلام، هو ما أعاد التأكيد عليه عبر الإيمان بالله عز وجل، وموقع الله في الوجود والكون وعلاقة الله بالإنسان والحياة والأحداث».

أمّا الإمام الخامنئي، يُشبه أن يكون في موقعه المنصهر بشخصية الإمام الخميني، شبيهاً بالسيد حسن نصرالله من جهة وظيفة التفريع على أصول نهج الإمام الخميني، ولكن على مستوى أضخم وأكبر، على مستوى الدولة والمؤسسات والعلاقات الدولية، والثقافة والمعرفة والفن والسينما وغيرها.

وكانت شخصية الإمام الخامنئي المليئة بالتجارب والأدب والشعر والقراءات ذات الفضاءات الأخرى المغايرة لفضاءات السيد، ترفده بنماذج تفريع الفروع الخمينية بطريقة رائدة، وهو ما ينعكس على سبيل المثال في إطار فهم المواطنة اللبنانية بالتوازي مع الخطاب الخامنئي في إعطاء القومية الإيرانية نصيبها في الحضور في مختلف ساحات الجمهورية الإسلامية.

في هذا السياق، يقول السيد حسن نصر الله «إننا بين يدي إمام (الخامنئي) يملك رؤية شاملة وعميقة ومتينة قائمة على الأسس الآتية: أولاً المباني الفكرية، ثانياً معرفة الحاجات والمشكلات، ثالثاً معرفة الإمكانات المتاحة، رابعاً، معرفة الحلول المناسبة والمنسجمة مع الأصول والأسس. ولذلك نجده يقارب كل الأحداث والتطورات والموضوعات بوضوح وعمق انطلاقاً من هذه الرؤية الشاملة ومع كل الشرائح التي يلتقيها وعلى اختلاف تخصصاتها ستجد أنك أمام قائد يُحيط بالموضوع إحاطة عارف حتى بالتفاصيل، ويتحدث فيه كصاحب اختصاص ويقدم فيه كل جديد».

هكذا تتجلى رباعية السيد حسن نصر الله، كرباعيات العرفاء والعشاق، ترسم في بيت منها إرث موسى الصدر التي تختم بختم القضية الفلسطينية الهويات الوطنية جمعاء، وفي بيت آخر عبقرية محمد باقر الصدر المؤمنة بعمق بامتداد الإسلام في ساحات الحياة الفكرية جمعاء، وصولاً إلى الإمام الخميني الواهب لهذا النظم نظريته التي كانت بمنزلة الروح من الجسد، وختاماً بالإمام الخامنئي، الساقي جذور النظرية ومفرّعها في ميادين الفاعلية الاجتماعية والحياتية كافة. بتقديري من أراد أن يفهم الأرض الصلبة الفكرية للسيد حسن، عليه أن يدرك سر امتزاج هذه الأبيات في رباعية واحدة.

*حسين إبراهيم شمس الدين - أكاديمي لبناني