نموذج الشهيد في «انتهاك الطغاة والمتجبّرين»

الاشراق | متابعة.

عادةً ما يقترب المناضلُ والمثقف من حدود «الانتهاك»، أي الخطوط التي يكونان فيها فاعليْن، بلا هوادة، في التّجاوز على علامات الهيمنةِ والسّلطة. وهذا التجاوز، في نموذج السّيد الشّهيد، هو النضال ذاته، أو النضال المجدي والملموس. هذا الأخير يكون حاضراً ومؤثّراً كلّما كان الانتهاك حادّاً ومُمْعِناً في الوضوح والجرأة. عندما ينخفض المستوى؛ يُصبح الأمر مجرّد تضامن لغويّ محدود، أي خطابات عائمة، مفرغة من المعنى الفضائحيّ، وأقصى ما يُرجى منها إبراءُ الذّمة، وتخفيفُ وطأة الضّمير ومحاكم التاريخ المفترضة. في مثال السّيد الشّهيد حسن نصر الله، تغدو هذه الفكرة مُجسّدةً ومنيرة، وباستواءٍ بالغ في النموذجيّة


إذا افترضنا أنّ الانشقاق الذي يفرضه الانتهاك هو ردُّ فعلٍ، وليس مبادرةً للفعلِ؛ فإنّ غالبية ألوان الانتهاك تُحال إلى الفضاء المحيط، وعلاقات القوى ورأسمال المال، وإلى طبائع المعرفة وطبعاتها، أي السّياق الاجتماعي للمعرفة (في وقته).

وبجملةٍ أخرى، فإنّ انتهاك سلطةٍ ما وإنهاكها هو انحلال مناوئ لكلّ البُنى، والعلاقات، والنّظام المعرفيّ المهيمن، مثلما أنّ انتهاك السّلطة يأخذ منها وجوها من الشّدة والعَسف، والاقتحام الانتحاريّ، طالما أنّ الرّدود والمساجلة، وتقديم التوضيحات المعاكسة؛ هو توليد ضمنيّ للأسئلةِ الوقحة، وتفريع غير مقصود للاتّهامات المغرضة، أو كما ينقل أبو حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» عن فيلسوفٍ قوله «إذا نازعك إنسانٌ فلا تجبه؛ فإنّ الكلمة الأولى أُنثى، وإجابتها فحْلُها، وإنْ ترَكت إجابتها بترْتها، وقَطَعت نسْلهَا، وإنْ أجبْتها ألقحْتها».

يعود ذلك، في الأساس، إلى أنّ الاستياء، والنفور، والتمرّد، وبقية ردود الأفعال الحادّة (ريبرتوار Repertoire الانتهاك)؛ تتلابسُ بالذّوات التي تستخفّ بها وتُديْنُها، كما تتلاقحُ مع محاور الخلاف والاعتراض وتقع في أسْرها الخفيّ، أي في حبائلها المخزية.

يصبح الأمر أكثر خطورة، بالمعنى الثوريّ والقيميّ، عندما يُترَك الأمرُ لطاقةِ الغضب كيفما هاجَت، وللمدى غير المنضبط من الكراهية والازدراء. ذلك أنّ إبداعَ الشّتائم والتعابير القادحة، وتوريد المشاعر الحارقة واليأس الثوريّ؛ معرَّضٌ لأنْ يكون إضراماً انفعاليّاً للنّار، وزيادةً في الحرائق، بلا قواعد أو تحكّماتٍ مرسومة.

الانتهاك النضالي
في المقابل، يتحقّق الأمان الوظيفيّ عندما يكون خطاب «الانتهاك النضاليّ» مقروناً ببناءٍ فكريّ معاضد، ومحميّاً بنظام أخلاقيّ وإنسانيّ، ومسنوداً بالممارسةِ المطابقة. قدّم غرامشي شيئاً من هذا القبيل، ومثله فرانز فانون، ولكن «الانتهاك» الذي أنتجه السّيد الشّهيد نصر الله كان أكثر اكتمالاً في تأديةِ لوازم النضّال.

في الواقع، لم تكن الحال، عند السّيد الشّهيد، مجرد فعاليّة أدبيّة ذات مغازٍ ناقمة فحسب، رغم الحجم غير المسبوق من الأعداء الذين انتهكَ أغشيتهم وأقنعتهم، فما قدّمه كان حاصلَ صيغةٍ متقاطعة من الصّنيع الفرديّ (الخواص الشّخصيّة المتفرّدة)، والمنظومة الأيديولوجيّة الصّارمة (المطبوعة بالنّقاء الامتثاليّ لها).

لم يكن الانتهاك عنده عدميّاً، لأنّه لم يكن مدفوعاً ببلاغة التقريع والمصالح الصّغيرة. فإعلان الكراهية للشّخوص (الجهْر بكرهه للملك سلمان مثلاً) ليس انفجاراً لبركانِ الغضب الشّخصيّ، كما إنّ «تدخّله» المقصود في الشّأن البحريني، رغم الكلفة الباهظة، كان تضادّاً لمصيدةِ السّعوديين والقطريين وهم يُمنتجون الانحدار العنفيّ للثّورة في سوريا، باحثين عن موازٍ ستائريّ لها في البحرين.

بحسب قاموس الانتهاك المتوالي؛ يُقدّم مثال البحرين، في خطابات السّيد، حقلاً حيويّاً لقدرته الخلاّقة على تشييد خطابٍ تحريضيّ وإقناعيّ في الوقت نفسه، ما يجعل انتهاك السّلطة انتقالاً من الغضب العارم، والتضامن المتفجّر، إلى إعادة البناء والأمل، وتجنيب المعنيين الوقوع في الملَل العبثيّ، والسّأم المدوَّر، وصدمات ما بعد القمع المتوحّش.

انتهاك الطغاة: مثال البحرين
تعمّد السّيد أن ينتهك منْ اعتبرهم طغاة ومتجبّرين على شعوبهم، وكان يَصِلُ أوقاتاً إلى إيقاع الشّدة في الانتهاك، معوّلاً على معجمه الخاص في الذّم، وتصريفه وفق الحاجة المتوثّبة في إيصال الرّسائل، أو الرّد على الرّسائل. ويصحّ الاستنتاج أنّ فحص هذا المعنى الخطابيّ؛ لا يستوي في الموضوع المركزيّ - أي فلسطين وتحريرها، كون العدوّ مشخّصاً وماثلاً بالقبح كلّه - إنّما في الموضوعات المصاحبة التي تتحرّك تبعاً لمؤشّر قضيّة فلسطين، ولكن على ضفافٍ غير قريبة منها، مثل موضوع العدوان السّعوديّ على اليمن في آذار (مارس) 2015.

«تدخّله» المقصود في الشأن البحريني كان تضادّاً لمصيدةِ السّعوديين والقطريين وهم يُمنتجون الانحدار العنفيّ للثورة في سوريا

ومقترح هذه المقالة، أنّ استيضاح نموذج انتهاك المتجبّرين، لدى السّيد الشّهيد، يتجلّى مفصّلاً في ما قدّمه بخصوص قضيّة البحرين وثورتها التي انطلقت في 14 شباط (فبراير) 2011. ووفق عملٍ توثيقيّ ينشره «ائتلاف شباب ثورة 14 فبراير» في الذّكرى السّنويّة الأولى؛ قدّم السّيد خطابات ومواقف ثابتة من حيث المسار الزّمني، اسْتقصَدت بدايةً تدعيم الموقف المؤيّد لثورة البحرين، ولكنّها لم تكتفِ بإنتاج التضامنيّات المحدودة، ووجدت أنّ حجم الظّلامة تدعو للذّهاب بعيداً في انتهاك السّلطةِ وفضْحها وملاحقتها، حيثما توفّر المعطى المناسب.

من آذار (مارس) 2011 إلى كانون الثّاني (يناير) 2024 قبل الخطاب الأخير في آب (أغسطس) 2024؛ وثّق «الائتلاف» 28 مناسبة علنيّة أعلن فيها السّيد مواقف مباشرة في شأن البحرين، وكان النّسق المعتمد فيها هو التّتابع في الاستحضار، مع دمْج المواقف الصّادرة ضمن أجندة المقاومة ومناسباتها المركزيّة، والحرص المباشر، والشّخصيّ أيضاً، في تتبّع تفاصيل الحدث البحرينيّ، مع الإصرار - قبل ذلك وبعده – على إنتاج منظومةٍ خاصّة في انتهاك السّلطة اعتماداً على قواعد الخطاب التالية:

1- إحباط تأثير الضّغوط والإجراءات الهجوميّة (ضدّ «حزب الله» ولبنان بسبب تأييد ثورة البحرين) وإفساد أهداف القمع والحصار الشّرس (ضدّ الشّعب البحرينيّ)، بإظهار المزيد من الوضوح في تمجيد الشّعب «الشّجاع، والصّابر، والمخلص» (29 أيلول (سبتمبر) 2020)، و«الشّعب الحسينيّ المجاهد» (10 أيلول (سبتمبر) 2019)، وتقديم دفوعات مستفيضة لمطلبه في البرلمان المنتخب، وتبيان التحدّيات المستجدّة من قبيل المشروع الشّبيه بالصّهيوني الذي يتهدّده عبر التغيير الدّيموغرافي» في 29 تموز (يوليو) 2023، وبعدها الإكثار التّصعيديّ من معجم ألفاظ انتهاك السّلطة وداعميها، التي تغدو «وضيعة، وهزيلة، وصمّاء، وعمياء، وخانعة» في 26 شباط (فبراير) 2015 و 14 كانون الثاني (يناير) 2024.

2- إظهار التفوّق القيمي، والمنطقيّ، وأيضاً السّياسيّ، للدّائرة التي يمثلها شعبُ البحرين وثورته، ومنْ يدعمه ويؤيّده، في قبال الدّائرة المعاكسة التي شطبت ثورته من قائمة «الرّبيع العربي»، ووصمتها بالطّائفيّة والارتباط بالخارج (9 يناير/كانون الثّاني 2015). فعّل السّيد في هذا المجال تقنية المسح المقارنيّ بين البحرين والوضع السّوريّ، وعاينَ حجم النقائض و«ازدواجيّة المعايير» في 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 والتّهافت الصّارخ لدى الخصوم، من السّلطة والأنظمة والأطراف المؤيّدة لها، ممّنْ حرّضوا على عسكرة الاحتجاج في سوريا في 15 كانون الثاني (يناير) 2015، وفبركوا اتّهامات العنف إلى الحراك السّلميّ في البحرين الذي «يسحق آل سعود عظام شعبه» في 17 نيسان (أبريل) 2015.

3- إبداع تفسيرات ومحتويات ومعنويّات واقعيّة تُعيد صياغة الحدث وبنائه لصالح الشّعب وحراكه، وتؤكّد ثباته وصموده وتسلّحه بقيادة «حكيمة وشجاعة وعاقلة» (19 آذار (مارس) 2011)، مع رمي وضعيّة «اليأس» في وجه السّلطة، وإحاطة عنفها وتحالفها مع منظومة الخارج و«التطّبيع» بوصفه تحايلاً على انهيارها الدّاخليّ وفشلها المحتوم، ولكن أيضاً بمعيّة تقديم جرعة من المؤازرة المكافئة لضمان عدم وقوع الحراك الشّعبي في الحفرة السّوداء «الخلاف الدّاخليّ» (24 تشرين الأول (أكتوبر) 2011) أو ابتلاع الكأس المسمومة «الخروج عن سلميّة الحراك» (9 كانون الثّاني (يناير) 2015).

4- الاعتماد على ميزان ترجيحيّ عادل وحاسم، وهو موقفُ «طرفي الصّراع» في البحرين من الكيان الإسرائيليّ. في هذا الميزان، تلقّت السّلطة وابلاً من أقسى النّعوت وانتهاك «الهَيبة»، فهي «طغمة حاكمة فاسدة خائنة، تسلبه أي (الشّعب) أبسط حقوقه الطّبيعيّة، وتعتدي على رموزه ومقدّساته، وتحتضن أعداءه، وتفرض التطبيع» (9 آب (أغسطس) 2022) في حين أنّ «شعب البحرين، وعلماء البحرين، المجلودة ظهورهم (..) لم ينسوا فلسطين (..)، ولم ينسوا أنّ الصّراع الأساسيّ هو مع العدوّ الإسرائيلي» (26 كانون الأوّل (ديمسبر) 2016).


كان الدّافع الابتدائيّ لانتهاكات السّيد الشّهيد ضدّ سلطةِ البحرين هو توصيف وجهها البغيض، ورسْمه في مرايا عاكسة، أملاً في دفعها للكفّ عن خيارات القمع تجاه مطالب النّاس.

فلم يكن يرمي لإسقاط السّلطة، أو التّخطيط المتدرّج لجعل البحرين ساحة أخرى للنّزال الإقليميّ. وكان السّيد حريصاً على التّصريح بذلك تعبيراً على الالتزام بضوابط انتهاك السّلطة وعقلانيّته و«رحمانيّته».

ولكن سرعان ما انكشفت مضمراتٌ أخرى من الخطاب، وعلى التّخوم التي كانت فيها السّلطة تُوغِل في العناد والقهر، وتندفعُ نحو الخيارات المجنونة، وصولاً إلى إعلان التّطبيع (أيلول/سبتمبر 2020): المفصل الذي جَعَل السّلطة مغشيّة بـ«الذّل والعار» (14 كانون الثاني/ يناير 2024). عندها، أضحى انتهاك السّلطة محفوفاً بجوهر المقاومةِ وانتهاكاتها الأمّ الموجّهة إلى الكيان المحتلّ وملحقاته الجديدة. وهذه قصّة أخرى في خطابات السّيد.


نادر المتروك كاتب وصحافيّ من البحرين