لمن علّمنا المواجهة: سيد الجنوب الذي زلزل الأرض
الاشراق | متابعة.
وجه واحد، واجه وقاوم أخطر كيانٍ في عصرنا الحديث، فدفع من حياته عمراً في سبيل قضية الحق والإنسانية. ثمّ واجه وحده مصير الشهادة بصلابة القائد ويقين المؤمنين.
حرب الـ33 يوماً
ربع ساعة أو ما شابه، ولا يزال جيش الاحتلال يحاول عبثاً تنفيذ عملية إنزال عند وادي حومين الفوقا، في شهر تموز من عام 2006.
وقتئذٍ، كنا حوالى عشرة أشخاص، ننحشر في غرفة سفلية من منزل خالتي القروي في وسط الضيعة: يقرؤون القرآن، وسورة السد، فنُغشي عيون العدو، ببركة الآيات، و أيدي مجاهدي صفوف المواجهة. تنخفض الطائرات ، تحاول الاستقرار فوق ترابنا الأحمر، عبثاً.
كان السيد قبل أيام قد ألقى كلمة أيقونية حرق فيها البارجة الإسرائيلية قبالة الساحل اللبناني: أعيد الخطاب في رأسي أرفع صوته فيغلب هدير الطائرات، و يغلب الرعب: انظروا إليها تحترق. والعدو قابل للاحتراق.
بعد فشل محاولة الإنزال، يزورنا قريب، ويحدد موعد انطلاقنا غداً نحو بيروت، ويشير إلى قداحته ذات «اللمبة» محذراً: «حتى هيدا الضو اليوم ممنوع، بيكشفوه».
أربع ساعات مضت منذ انطلاقنا نحو العاصمة، من الجنوب إلى الجبل ثم بيروت. لن نفارق المدينة حتى فجر الرابع عشر من شهر آب.
يوم النصر: 14 آب 2006
لم تتسع الطرقات لنا. شوقاً، تتجه شتى أنواع المواصلات نحو الجنوب. ضاقت بنا المساحات، إلا عيون السيد: أراه في الصور المرفوعة على طول الطريق: عينان سعيدتان وثغر مبتسم. سبيل المواجهة يتوّج بالنصر.
تطأ قدماي أرض الضيعة، وعيوني شاخصة نحو شجرة الصنوبر العملاقة عند مدخل المنزل، لم تهتز. وشجرة المشمش، حيث يتفيأ جدي، لم تهتز.
زارنا جدي في بيروت، وأحضر لنا فاكهة الإجاص والتفاح الجنوبية، وقد قضى معظم أيام الحرب في الضيعة. لم يمنعه تقطّع الطرقات و لا ندرة المواصلات على التنقّل: صاحب الأرض لا تنقطع به السبل.
أهل الضيعة يملؤون الساحات، أصحاب الحق كلهم وصلوا. لا شيء يشبه بريق النصر الذي يلمع في عيون الناس: تشابهنا كلنا فجأة.
معركة بأوجه خفية
لم تسأم الفتك بالقرى الحدودية منذ أكتوبر 2023، حتى فتكت بعيون وأطراف ضحايا البيجر: إسرائيل تفجّر حرب استنزاف طويلة بخطط غادرة وأكثر دموية. أيلول 2024 بالدم مبلول.
لم تخدمنا قدرتنا على الاستيعاب: تتالي الأحداث الدموية، من تفجير البيجر والأجهزة اللاسلكية في 17 و18 أيلول 2024، إلى عمليات اغتيال كبار الشخصيات الحزبية، ونسف مستمر للقرى، كل ذلك يرسّخ صورة العدو الأبدي: جبروت وحقد وتعطّش للدماء.
تلال بأكلمها تُفجّر وتتلاشى غباراً. ملابس نسائية يرتديها جنود حقراء مدججين بأسلحةٍ أثقل من أجسادهم النجسة.
هيئة إبليس تتحكم في مصير الإقليم. دائماً ما صوّرت الأفلام هيئته بالوجه المحدّد والأصابع الطويلة و«ما عليه ولا غبرة»: كنتنياهو: قبيحٌ ومهفهف.
يا ليل ما أطولك
كل شيء توقف. الزمن. ساعة هاتفي. ورق الشجر ما عاد يلعب مع الهواء. الهرة جامدة في الحديقة. كل شيء استحال جماداً. إلاً الشمس استعجلت الغياب. يا ليل لا تنتهِ. كيف للفلك أن يدور؟ والنجوم، كيف تلمع النجوم وأنت تمضي أولى لياليك عندها؟
صمتٌ مطبق بعد انفجارات مُزلزلة. أخال الأرض ستنخسف. صمتٌ مطبق، وكأن السماء في حداد تستقبل أنقى الأرواح.
هذه المعركة كبيرة وطويلة مع هذا الكيان ولكن أفقها ونهايتها واضحة يراها المجاهدون والمؤمنون والصابرون
انفجار كبير أودى بحياة السيد. Big Bang... طيّب، أتمرّ الأيام من بعده دون شرخٍ يقسم الكرة الأرضية بين ظالم و مظلوم؟ ألا تطبق السماء فوق رؤوس من صنّع ونقل وفجّر الصواريخ ذات الـ88 طناً؟
كما كانت خطاباتك وطلّتك يا صاحب الكاريزما الطاغية، كان الفراق زلزالاً هزّنا على طول البلاد.
كل شيء اختلف وكأنك سيد الكون.
تركت البلاد من بعدك يا سيد، ما استطعت مواجهة الصواريخ ولا ارتجاف الأرض، ولا حتى الخروج تحت نور الشمس. ويوم عدت، نحو أرض الجنوب، ما كانت العودة كسابقتها. عودةٌ نحو جراحنا المفتوحة في قلب معركةٍ لم تنتهِ، عودةٌ نحو أرضٍ جُبلت بالدماء وامتزج في ذراتها أثر الشهداء. جراحنا مفتوحة تحت الشمس وتحت السماء، وما تزال.
صور الشهداء هنا على مدى النظر، أكثر من عدد المباني الصامدة. ثغرٌ متبسّم، عيون واسعة، لحى شائبة وأخرى شابة.
انسحبت من الجنوب روحك، وضاق بنا العزّ. لا خطاب جديداً يعلمنا الصبر ولا مهرجان نصر تطلّ فيه شامخاً. إلّا صوتك، ها هو يصدر مهدّداً، يخرج من السيارات وعند باعة الأقراص المدمجة في النبطية ليجمع قوانا ويصوّب البوصلة: هذا الكيان إلى الزوال. صوتك أقوى من كل الردم.
أحضر تشييعك والنساء من حولي تندب. أحدد نظري نحو نعشك والدمع يغشي النظر. يعاند عقلي قلبي الذي يريد تصديق المنجّمين. لكننا نرى في وجه أبي علي الحقيقة المُرّة.
إنّ كيد المحتل قائم، وعليه، فنحن نعود إلى أرضنا، وبنا تنمو البذور التي زَرعت، على حب المقاومة، نذوب بترابنا الأحمر ولا نفلته.
«الأيام والليالي والأسابيع والشهور وقد تكون السنوات. هذه المعركة كبيرة وطويلة مع هذا الكيان ولكن أفقها ونهايتها واضحة يراها المجاهدون والمؤمنون والصابرون والمحتسبون والجرحى، ويشهد عليها الشهداء من عليائهم. السلام عليكم ورحمة الله بركاته» - الخطاب الأخير للسيد/ 19 أيلول 2024
تقرير لتغريد الزيناتي