الرسالة الأخيرة: عن غروب «يوم القيامة»

الاشراق | متابعة.

صباح 27 أيلول 2024، يوم لا يُشبه سابقاته. «هنالك مستجدّات»، على غير عادة، دُعينا سريعاً، كإعلاميين، للحضور. وصلنا إلى مكان اللقاء، كان وجه الحاج يقطر سَخَطاً: «العدو الإسرائيلي يحشد للعمليّة البريّة، الحرب على وشك أن تبدأ».

كانت الضاحية الجنوبية يومذاك قد أُخليت بنسبةٍ كبيرة، بعد الاغتيالات التي نفّذها العدو في مناطق عدّة. خلال ذلك اليوم، وصلت رسائل عدّة على أجهزة البايجر، أكثر من المعتاد، بضرورة أخذ «الحيطة والحذر في بيروت»، نظراً لرصدٍ دقيق لحركة السماء. أنهينا اللقاء، وزّع الحاج علينا حبّات لوز وزبيب (حبة من كل نوع لكلّ منّا) قائلاً إنها من صحن سماحته، وقد «رقاها» لنا قبل أيام. ينقبض قلبك تلقائياً، لكن سرعان ما تنتزع الفكرة من رأسك، كي تستمر في عملك.

عند الساعة 6:12، وصلت الرسالة الأخيرة «حيطة وحذر بيروت». لم تمرّ دقائق قليلة لتقع انفجارات متتالية، دوّى ذاك الصوت الذي قتل أمّة، حتى ارتجّت العاصمة.

خرجتُ إلى الشارع، نظرت يميناً ويساراً، ظننتها ضربة في المبنى المجاور لشدّة قسوتها. لا شيء مدمّر هنا، سرعان ما امتلأت السماء بالدخان. راسلت عائلتي لأطمئنها، ثم استقلّيت السيارة متجهّة إلى مكان الاستهداف. في الطريق الذي يبعد ثلاث دقائق، صراخ وصدمة. سيارات إسعاف تُقاد بجنون، حتى صدمتني واحدة من الخلف. نظرت إلى المُسعف، الذي يبدو أنه قد عرف باكراً، رأيته يبكي. طلبتُ منه إكمال طريقه من دون توقّف وسرنا معاً إلى الفاجعة.

هناك في حارة حريك، كانت لحظات أشبه بيوم القيامة. السماء قاتمة، الدخان الأحمر يغطّي كلّ شيء، مدنيون يبحثون عن ذويهم، دمار غير مسبوق، والسعال لا يفارقك. وقفت متمتمة بخوف «إلا السيّد»، سمعني رجل ستينيّ كان يبحث عن ابنه في المكان.

توقّف لبرهة، نظر إلى السماء «يا الله خذ عائلتي، خذ ولدي وكل ما أحب، واترك لنا السيد». في أقلّ من ساعة أعلن العدو عن «الهدف».

تقف في الطريق، وفي أجزاء من الثانية تستعيد شريطاً كاملاً مع الأمين. «السيّد»... كانت تكفي تلك الأحرف الخمسة أن تُشعر المستضعفين، في كل أنحاء المنطقة وصولاً للبوسنة، بكلّ الأمان، وكلّ القوّة. «السيّد»، بالنسبة لنا، كان طفولتنا التي رحلت دون إذن. كان الجنوب الأبيّ، وتراب عامل، والبقاع الشامخ، والزرع والتحرير. كان الاحتفالات بالنصر، والحشد الجماهيري الهاتف بقبضاته «لبيّك».

السيّد يعني ليالي عاشوراء، يعني «انظروا إليها تحترق»، «لا نترك أسرانا في السجون»، كان الوعد الذي لا يخلف. السيّد يعني التهديد بإصبعٍ لكل طغاة العالم. يعني فداه فلذات الأكباد والمال والأهل من بيئة وفيّة، أحبّها وأحبّته. ذلك القائد الذي خافه العالم، لم يبخل يوماً بالتعبير عن حبّه لناسه «إني فداكم». لطالما ردّد «إني آنس بكم، وباخد روح فيكم». لأجل هذه الحروف الخمسة، كان الناس يقدّمون أغلى ما يملكون دون تردّد.

صوت «السيّد» كان لأكثر من 30 عاماً صوت صلابة الناس وتماسكها. وهو الفقير من حيّ شرشبوك، الذي قاد بحكمته مصير أمّة. الشاب الذي عُرف بحبّه للقيادة منذ الصغر. كبُر الفتى، صار عشرينيّاً يجول بين الناس في قرى الجنوب، متحدّثاً عن المقاومة التي لم تكن قد اشتدّت بعد. لقد سَحَر السيّد شعوباً بخطابه البليغ، صاحب الحجّة والبرهان. لطالما عملت مراكز دراسات العدو على تحليل مفرداته، واحتمالاتها، ونبرة صوته، ولغة جسده.

كان سيّد المنبر بلا منازع، يمنهج المَحاوِر بسلاسة، يتحدّث بلغة يفهمها جميع فئات المجتمع، مهما كانت طبقاتهم المعرفيّة. يحرص على دقّة اللغة، يُصحّح قواعدها مباشرة، تحت هدير الطائرات الحربيّة.

أوصيتنا يا سيّد قبل أشهر من اغتيالك باحتواء الناس، والوقوف إلى جانبهم في هذه المرحلة الدقيقة والمفصلية. قلتَ إنك تتكئ علينا كإعلاميين، في مواساتهم وشرح لهم سبب التضحيات ونتائجها.

كيف نواسيهم يا سيّد ونحن بأمسّ الحاجة للمواساة، أم كيف نخفّف عنهم ألم المصاب ونحن لم نلتقط أنفاسنا بعد؟ كيف نمسح على قلوبهم وعبارة «يطلّ الأمين العام سماحة السيّد» لن تضجّ صفحاتهم بعد تلك الساعة. كنتَ تنظرنا جميعاً، رغم كثرتنا. تتابع قضايانا الاجتماعية بكلّها وتفاصيلها، لم تغفل عن شيء. تُعيد ترتيب حياتنا من جديد. تولي أهمية خاصة للفقراء والمرضى، وتُخصّص من معاشك للأيتام. رددت دوماً «إني أحبكم»، وبكيتَ. نعم بكيت كلّما تذكّرت أشرف الناس.

وبكيت بحرقة على إخوتك وأبنائك الذين فقدوا أعينهم وقُطّعت أيديهم، بينما كانوا يوصوننا بالانتباه عليك قبل أن يسألوا عن بصرهم.
لم يُخيّل لنا للحظة أننا سنكتب رحيل «السيّد». على الأقلّ ليس الآن. لم أعدّ نفسي، كما أنك يا سيّد، لم تعدّنا لمثل هذا اليوم.

80 طناً من المتفجرات لم تُصبك بخدش، ولم تقوَ عليك. بقيت هيبتك ووقارك. وأُخرجت شهيداً كما أنت، كفّك الطاهر ناصعاً، واصبعك الطاهر صدّاحّاً، وشبيتك العزيزة وهّاجة. وعدك كان الكلمة القاطعة. وعدت ووفيت طيلة عقود ثلاثة. لكنك لم تفِ بوعدٍ أخير. أخبرتنا أنك باقٍ معنا طويلاً، ثم رحلت فجأة. قل يا سيّد أنك اشتقت لهادي منذ يوم حبست الدمعة في الإعلام. وقل إن فراق والدتك آلمك، وقل إنك افتقدت لإخوتك من القادة الحاج عماد مغنية، والحاج إبراهيم عقيل وغيرهما، قل هذا ثم ارحل.

 

للكاتب إيمان بشير